علي الابراهيمي
الربيع العربي فصل تمنى الجميع ان يحتفظ برائحة ازهاره، لكنه ما لبث ان كشف عن عاصفة رملية مسمومة، قادمة من شبه الجزيرة العربية، تحركها ماكنة دوّارة ضخمة تعمل بالطاقة الامريكية.
ان الشعوب العربية عانت لعقود، بل لقرون، من ويلات انظمة الاستبداد والقهر، وآلة النار والحديد، وكلما اراد ثائر الانتفاض ابرق الغرب (الديمقراطي) للحاكم الاستبدادي محذرا، فاُطيح برأس ذلك المنتفض المسكين، عبر معلومات استخبارية (ديمقراطية متحضرة)، ويدٍ عربية (باسلة قومية او اميرية)!.
وقد ثارت الشعوب، اخيرا، رغبة في النجاة وتخلصا من الفاسدين من (ولاة الامر). وقد تجاوزت هذه الشعوب كل (فتاوى) الطاعة والخنوع لولي الامر، حتى وان سلب المال وضرب العيال.
لكن الايام (حبلى) كما يقولون، وقد كشفت ان الامر ليس بهذه البساطة، وان الغرب لم يصبح (نبياً) فجأة، وبين ليلة وضحاها، ليقدم المساعدة للديمقراطية العربية الوليدة، وهو من (وأدها) بالامس. نعم، ان الشعوب العربية حانقة على الوضع المزري الذي تعيشه، ومستاءة من فجور (امراء المؤمنين) العسكر والشيوخ، وقد انتفضت محقة، وقدمت كل ما تستطيع من تضحيات، لكنها غفلت عن وجود الايادي الخفية المحركة للجماهير، والموجهة لسير الرغبات، وقد تبين ان طريق هذه الثورات سالك باتجاه خطط تغييرية كبرى، رسم لها الغرب خريطة مضطربة، ومستقبلا مرتبكا، ودليلنا على كل هذا – ظاهرا – هو الانتقائية الغربية والعربية – الرسمية – للثورات المدعومة، ففي حين دخل الغرب بكل قواه لمساعدة (ثورة المؤمنين) في ليبيا، وعمل ضاغطا لمساعدة المعتصمين في مصر، وأيّد المحتجين في تونس – بعد اسقاط بن علي -، رأيناه هو ذاته – الغرب بخليجه العربي – حبل نجاة الطاغية (علي عبد الله صالح)، وهو ايضا من اصرّ على وأد الديمقراطية (الشعبية) في اليمن، رغم مجاميع الشهداء والجرحى التي قدمتها الثورة اليمنية، اما موقف الغرب وحكام العرب التابعين له من الثورة البحرينية فهو (القتل مع سبق الاصرار والترصد)!.
لتظهر لنا الاحداث في سوريا وجه الحقيقة، ومَعْلَم المراد، حيث الغاية هي اسقاط ما يمكن اسقاطه من بقايا جدران الممانعة، ابتداءا، ومن ثم تنفيذ الخطة التغييرية الكبرى (الامريكية – الخليجية – السلفية)، والتي لها مبحث آخر، واستدلالات ثانية.
وهنا، انا لا ازعم ان النظام في سوريا ديمقراطي، كلا، ولكن ما يثير تساؤلي هي الجهات التي تطالب بالديمقراطية في هذا البلد، وهي الرمز الاكبر والاجلى لكل ظواهر الاستبداد والعمالة، فعند الحساب الرياضي على سلم الشرف السياسي، يكون النظام السوري هو الاعلى نقاط بكثير من مجموع انظمة الخليج.
محور المقال ليس ما قلناه اعلاه، بل هو ما حدث بعد كل هذه الانتفاضات (الديمقراطية) العربية، من اضطرابات وقلاقل، ومن اعتداءات داخلية، او انتهاكات لحقوق الناس، على يد بلطجية (ذوي لحى)، وفي جميع بلدان الربيع العربي.
ان الخطة الغربية (للديمقراطية العربية المرسومة) تقتضي احداث الفوضى والاضطراب بعد كل تحرك سياسي شعبي، والاهداف من ذلك بعضها نعلمه وبعضها نجهله حتى الآن، ففي مصر وقعت مجازر كثيرة بعد سقوط مبارك، كان للعسكر احيانا دور فيها، واحيانا كانت بتحريك (على فهم السلف)، وفي تونس لا زال (رجالات السلف) يطالبون ويتحركون بما يخالف التوجه الشعبي العام، اما في ليبيا فكان اكبر هم رجال (السلف) - الذين انتصروا بمعونة (الاصدقاء) – هو التوجه لهدم (اضرحة الصالحين) من (رجال الدين المتوفين غير الديمقراطيين)!، وفي اليمن، بينما يتحرك الشعب اليمني بكل اطيافه لاسقاط النظام الفاسد، رأينا (السلفيين) يشنون الحروب على المسلمين شمالا، ويحتلون المدن جنوبا، دون ان يكون لهم حضور بين ابناء اليمن المنتفضين، الّا اللهم ما كان من دورهم في دعم مبادرة (طوق النجاة الخليجية الامريكية) لنظام صالح!، ودورهم الأبشع هو في البحرين حيثوا حملوا السيوف والحراب لقمع الاحتجاجات السلمية المطالبة بالتغيير الديمقراطي، بدعوى انها خارجة على (ولي الامر)، وفي الصومال رأيناهم سابقا يذبحون كل من يشارك في بناء بلده، رغم ان الحكومة الجديدة هي وليدة (المجتمع الديني الصومالي)، وهم مصرون الى هذه الساعة على عدم استقرار الوضع في هذا البلد باسم (حركة الشباب)، اما في فلسطين فلم يذكر لهم التأريخ دورا جهاديا، الا مساهمتهم في تأجيج الفتن الداخلية، وكأنما هم متأثرون بفتوى (ابن باز) بوجوب خروج الفلسطينيين من ارضهم!، وفي موريتانيا لانجد لهم فكرا سياسيا محددا يمكن ان يفهمه منهم المثقف، فضلاً عن الشعب، الا ما كان من خلط الامور الدينية العقدية على البسطاء من العامة.
اما دور (الجماعات السلفية) في الجزائر فهو الطامة الكبرى والمأساة العظمى، فبعد ان جاءت الديمقراطية النسبية في جزائر التسعينات بالاحزاب الاسلامية المعتدلة، ذات الآيدلوجيا الوسطية، صار ان انقلب العسكر – المدعوم غربيا – على (الديمقراطية غير المتحضرة)، والغى نتائجها التي لم ترضِ الدوائر (الانسانية) الاوربية والامريكية، لكنه – ومن يدعمه – لم يجد ما يعتذر به عن هذا الانقلاب، والانكى ان العسكر لم يستطيعوا ان يجدوا (سببا ديمقراطيا) لضرب واعتقال (الاسلاميين) المعترضين على هذا الانقلاب الاسود، فتصدت (السلفية الجهادية) لتمثيل دور الوسيط المانح لشرعية القتل، بل المساعد عليه، فهي وفرت غطاءا للعسكر يسمح بضرب الاسلاميين عبر اثارتها الرعب والاضطراب بين الآمنين، وكذلك قامت وبكل وحشية بذبح عوائل الاسلاميين بحجج واتهامات واهية وبائسة.
اما ما قامت به السلفية في العراق وافغانستان وباكستان، من قتل وتهجير وتفجير وسبي للنساء، بداعي تكفير كل من يشهد الشهادتين ولم يؤمن بما جاءت به صحراء نجد من الغلظة على يد الاعراب تحت العلم البريطاني وبقيادة (لورنس) و (فليبي) واقرانهم، فهي احداث اشهر من ان تذكر، واقسى من ان تستعرض، ولله في خلقه شؤون!.
ان الاخطبوط السلفي القائم الممتد من فكر اعراب نجد، والمتغذي على (البترودولار) السعودي، هو لاشك يسير ضمن المخطط العام للدوائر الغربية، وهذا ما تؤكده الدلائل والاحداث المتعاقبة.
فنحن لا نجد تفسيرا، يجمع بين الفقه السلفي القاضي بلزوم الطاعة والدخول في الجماعة وحرمة الخروج على (ولي الامر)، وان كان فاسقا، شاربا للخمر، ظالما للرعية، متجاوزا لحدود الله، وبين هذه الانتفاضة المفاجئة لتأييد بعض الثورات العربية، كما جرى في مصر، او الدخول في نصرة الحركات المسلحة المنشقة، مباشرة، كما هو الحال في سوريا.
خصوصا ان هذه المؤسسات السلفية الدينية تعيش تحت سلطة اشد الظواهر الاستبدادية في المنطقة، وفي كنف اشهر الانظمة الشمولية الملكية في المنطقة الاسلامية والعربية، سيما الخليج!.
واذا اضفنا لذلك فتح الاراضي السعودية – مصدر الفكر السلفي – او الخليجية امام اغلب الحكام الطغاة الذين اسقطتهم الثورات العربية، سوف نزداد حيرة وتساؤلا!؟.
ان النشاط السلفي – الاعلامي او المسلح او السياسي – الذي اعقب او زامن التحركات الثورية الشعبية العربية يثير فينا تساؤلات كبرى، حول كنه هذا التحرك ومقاصده، والى اين يتجه، والى ما يرمي، وهل هو في طول تحرك الماكنة التغييرية الغربية عن عمد وقصد، ام هي محض صدفة اتفاق المصالح واشتراكها ؟. ولكني بالطبع – وبناءا على الدلائل الكثيرة – اميل الى القصد والعمد، خصوصا بعد ما صرّح به بعض السلفيين في مصر من (امكانية التفاوض مع اسرائيل)، وهو بطبيعة الحال ما يتفق مع المسار العام والخاص للسياسة الخليجية، في التعاون مع اسرائيل. يقابله معاداة جميع الاطراف السلفية لكل فصائل المقاومة، بدعوى الخلاف المذهبي، وهو موقف التزمته الحكومة السعودية – السلفية – بشكل علني وواضح.
بعد كل هذا اجد من الضروري للدوائر الاسلامية المعتدلة، والحاملة للهم الاسلامي الاكبر، ان تحدد موقفها بشكل واضح من هذه الجماعات، وان تستبق الاحداث قبل تضخم الورم. كما يجب تنبيه القواعد الشعبية للسلفية، وهي في الغالب قواعد بسيطة فكريا، جُل همها تمثيل الاسلام كما اراده النبي صلى الله عليه وآله، لكنها تورطت في حبائل من لا يخاف الله، فجرها الى شفا جرف هارٍ، اذا ما غضضنا النظر عن الجماعات التي انتمت الى السلفية بتأثير (رائحة النفط السعودي)، كما هو حال اغلب القيادات السلفية.