موقع الإمـام الشيرازي
23/ربيع الآخر/1431
أثبتت لنا وقائع التأريخ، لاسيما السياسية منها، أن (اللاعنف) كمنهج حياة هو الأسلوب الأقدر على بناء المجتمع المدني المتحضر الذي تُحترم فيه إنسانية الإنسان وتُحفظ كرامته وحقوقه من خلال اعتماد المسؤولين سياسة التفاهم والتواؤم والانسجام ومعالجة التناقضات عبر المنافذ التحاورية المتحضرة التي غالباً ما تضع الأمور في نصابها، وتتعاطى مع الإشكالات بحكمة وروية وهدوء.
أما العكس، حين يسود مبدأ القوة والعنف في معالجة الإشكالات التي قد تظهر في هذا المجال أو ذاك، فإنه غالباً ما يغمط حقوق الآخر لمصلحة الأقوى ممثلاً بالحاكم ومعيته وهم الأقلية من بين عموم شرائح المجتمع، من هنا ستولد بؤر الاحتقان وتتكاثر وتنمو لتصبح ظاهرة ترسم طبيعة الحراك السياسي والعلاقاتي العام في المجتمع، فيكون الانطباع العام له، نوع من الصراع الذي لا يتوقف، وغالباً ما تكون الضحية هي الحلقة الأضعف في المجتمع ممثلة بالفقراء وبسطاء الناس.
لذا فإن غياب الروية والحكمة وضبط النفس والسيطرة عليها من لدن السياسي يقود الى تحجيم حقوق الناس ومحاصرتها لاسيما في مجال الحقوق، مع إننا وغيرنا نتفق على أن الإسلام قدم لنا وللإنسانية جمعاء حزمة من التعاليم التي تنظم حياتنا على الوجه الأمثل فيما لو التزمنا بها كما عملت بها غيرنا من الأمم، يقول المرجع الديني آية الله العظمى الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته) في كتابه القيّم الموسوم بـ (من أسباب ضعف المؤمنين):
(لقد تقدم الغرب علينا عندما أخذوا بالعمل ببعض قوانين الإسلام، مثل حق الانتخاب والتصويت، وخلع الحكام الطغاة المستبدين، ومطالبة الحقوق والحريات، ومثل النظم في الأمور، والاتقان في العمل، وما أشبه ذلك).
إذن من اسباب التراجع في المجتمعات الإسلامية عدم اتقانهم للعمل المطلوب منهم، وهذا يعني غياب الاخلاص ويبدو إنه ليس حكراً على السياسيين فحسب، أي أن الخلل في العمل لا ينحصر بالقائد السياسي الذي يسوس الناس وفقاً لمصالحه بل يمتد ذلك الى الآخرين، وقد أشار الإمام الشيرازي الى هذا المعنى بقوله في كتابه نفسه:
لقد أذاع الغربيون (وكتبوا في الجرائد والمجلات أنه كان من المقرر أن يصلوا إلى القمر في الساعة الخامسة مثلاً، لكنه تم ذلك في الساعة الخامسة وثلاثين ثانية، ويعتذرون من هذا التأخير!. نعم ثلاثون ثانية، لا ثلاثون دقيقة، وهذا من مصاديق الدقة والإتقان، وأعلنوا أن السبب هو تغيير مكان النزول، حيث كان المقرر النزول في مكان معين من سطح القمر، ثم تبين أن المكان لم يكن صالحاً لذلك، فهذه علة التأخير. ويقال: إن القمر الصناعي الذي استخدموه متكون من ثلاثة ملايين جزء، وقد ساهم في إنجاز المشروع ثلاثمائة ألف عالم وخبير، وهو غير بعيد، لأن كل جزء منه يجرب عشرات المرات).
إن هذا الاحترام للعمل وآلية إنجازه من مبادئ الإسلام المهمة لكننا لم نعمل به ولم نحترم الدقة في التوقيت وغيره، فيما نلاحظ أن الأمم الأخرى كالغربيين أخذوا عنا هذه المبادئ ووظفوها لصالحهم على الوجه الأمثل، لاسيما في مجال السياسة وما يتعلق باحترام حقوق المواطن في حرية الرأي والنقاش والعمل وحرية الابداع وحرية المشاركة السياسية وغيرها، فيما انشغلنا نحن بالاختلاف والتناقض والتعامل مع قشور الأمور وليس بواطنها، وقد قال الإمام الشيرازي (أعلى الله درجاته) في هذا الصدد بكتابه نفسه:
(نحن المسلمين ـ وكذلك حكامنا ـ قد تغيرنا بحيث لم نعر أية أهمية للإنسان الذي فضله الله وكرّمه، وحرَّم ماله وعرضه ودمه، ولذلك ترى الحكام الطغاة يقتلون الناس كما يقتلون البق).
وهكذا كان العنف رائد الحكام والسياسيين في مجتمعاتنا الإسلامية للتعامل مع عامة الناس، فيما أخذت الأمم الأخرى - لاسيما الغربيون - جوهر التعاليم الإسلامية وحولتنا الى أنظمة عمل فاعلة ومؤثرة فقوّمت حياتهم وحولتهم من أمم كانت تقبع في عصور مظلمة الى أمم باتت تتصدر الحضارة البشرية.
فيما صادر قادتنا حقوق الناس واستأثروا بالسلطة عبر التأريخ، فكان العنف وسيلتهم الأقوى في تحقيق مآربهم على حساب الآخرين.
لكن تأريخنا يحتفظ من جانب آخر بتجارب قيادية كبيرة استلهمت تعاليم الإنسان وحولتها الى مناهج عمل تنظم الحياة كما هو الحال مع أهل البيت (عليهم السلام)، يقول الإمام الشيرازي (رضوان الله تعالى عليه) في هذا المجال:
(في المقابل نرى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين عيّنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) خلفاء حق من بعده، وأئمة عدل للمسلمين، وفي مقدمتهم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يتخذ إلا الأسلوب الأفضل في الحكم، فلم تر في سياسته ظلماً ولا استبداداً، ولا عنفاً ولا إرهاباً، بل كان (عليه السلام) يتبع سياسة الحكمة والموعظة الحسنة، نعم أحياناً كان يتبع سياسة العتاب واللوم فقط، وذلك في أشد الحالات كالحرب وما أشبه).
بمعنى لم يكن ثمة حضور لأي مظهر من مظاهر العنف في ظل قيادة أمير المؤمنين (عليه السلام) بسبب تفضيل الآخر على الذات وحفظ حقوق الناس السياسية وغيرها.
لذا مطلوب من قادتنا السياسيين اعتماد طريق الحكمة والتروي في إدارة دفة الحكم، والاستفادة من الحلقات المشرقة في تأريخنا الإسلامي لاسيما ما يتعلق بالتطبيق الصحيح لجوهر التعاليم الإسلامية التي تحث على نبذ الاستبداد والتفرد واعتماد المشاركة وحرية الرأي والسماح للجميع بممارسة حقوقهم المشروعة، لأنه الطريق الأفضل لبناء المجتمع المتحرر القائم على مبدأ حفظ الحقوق لكلا الطرفين الحاكم والمحكوم.
---------------------------------
نقلاً عن:
شبكة النبأ للمعلوماتية