عود إلى السيد شرف الدين الموسوي
في سيرة هذا الرجل الكبير، ما يؤكد على أن طريق الوحدة والتقريب لا تعني عدم النظر والحوار. وأن الاختلاف بين السني والشيعي أشبه بالاختلاف بين عالمين مجتهدين؛ بما يعني وجوب بحثه من منظور اجتهادي ونظري بعيدا عن الاحتقان والكراهية والانفعال. وقد كان السيد شرف الدين الموسوي محل احترام من قبل علماء السنة والشيعة الكبار. فقد أجازه بعض كبراءهم في الرواية لا سيما في الصحيحين كما أجاز بعض كبرائهم بمثل ذلك في الرواية الشيعية. ولأن أدواره كانت واسعة، بدءا من التحقيق العلمي ومرورا بالعمل الاجتماعي وانتهاء بمقاومة الاستعمار الفرنسي، فرض احترامه حتى على شريعتي الذي اعتبره عينة من التشيع العلوي في زماننا. فالذين وجدوا في فكرة شريعتي ومبالغته أحيانا ـ مبالغة مصلح لا مبالغة حاقد ـ ما يصلح سهما مسموما في كنانة خصوم الشيعة ، لن يسعفهم ذلك دائما ، حيث إن كان السيد شرف الدين الموسوي الذي دافع عن كل مفردات مذهبه واعتبره خصوم الشيعة طليعة الرفض المعاصر ، هو عند شريعتي في كتابه "التشيع العلوي والتشيع الصفوي " من رموز التشيع العلوي . فالذين حملوا على السيد شرف الدين الموسوي حملوا عليه لأنه ناظر ليثبت بالأدلة رجحان مذهبه لا أنهم حملوا عليه لأنه ضد الوحدة. وهكذا بات من غير المفهوم أن بعض الأطراف تجيز لنفسها الدفاع عن آرائها وإثبات رجحان مذاهبها بينما تعتبر من يدافع عن معتقداته من الطرف الآخر مهددا للوحدة وعدوا لها. وأما الطريقة التي نافح بها السيد شرف الدين الموسوي عن معتقداته فليس محلها هنا ، فهي تطلب في أهم أعماله مثل كتاب "النص والاجتهاد" وكتاب "المراجعات" وغيرهما كثير. وهو أسلوب المناظرة والاحتجاج في إطار الأخوة والتسامح لا الاحتجاج في إطار الكراهية والتعصب. وهذا على نهج أسلافه ممن سبقوا غيرهم إلى هذا اللون من الاختلاف المتسامح. فكانوا هم المبادر إلى دعوى المناظرات بينما رفضها غيرهم ووجدوا في القمع بدلا ، وحينما أدركهم الحرج شغفوا بطلبها ادعاء لا حقيقة ، وزعما دون الصمود والمكث فيها حتى أن بعضهم ناظر من بعيد وليس من قريب ليكرس كل جهل بالآخر بدل أن يدلل المسافة بين الفرقاء. الإنهمام بسؤال الوحدة والتقريب
يعتبر السيد شرف الدين الموسوي أحد فرسان المناظرة الكلامية الحديثة في العالم الإسلامي ، بين مدرستين كبيرتين سبق ونعتهما بأنهما جدولان من نهر واحد[1] ، مما جعله يبدو في عيون أبناء المدرسة الإمامية ، بطلا لا يلوى له ذراع وعبقري لم يفر نظير له فريه، في الذود الكبير عن مقطوع عقائدها والاستدلال السديد على ما بدا شاذا في نظر مخالفيها. وقد عرف بأعمال كثيرة وتحقيقات جمّة ، اشتهر منها مناظرته التاريخية مع شيخ الأزهر : الشيخ سليم البشري ، التي ضمّها في كتابه المعروف بالمراجعات . وقد استنقذ الكثير من أعماله من الذّاكرة وبعضها ضاع بلا رجعة حينما أقدمت قوى الاحتلال على حرق بيته في جبل عامل ، مستهدفة إيّاه لدوره الريادي في مواجهة الاستعمار الفرنسي يومها. وقد صنّف كتابا تحت عنوان "النّص والاجتهاد" ، عالج فيه كل الخلافات بين الفريقين بأسلوب المحققين ، كما كان أوّل من صنّف عن إكثار أبي هريرة في الحديث ، وهو الكتاب الذي استند إليه بعد ذلك بسنوات عديدة الشيخ الأستاذ أبو ريّة في كتابه الشهير: " أبو هريرة شيخ المضيرة" ، هذا فضلا عن أعمال أخرى. لقد كان حريا بالمخالف متى ما بلغه مجمل الحجاج الذي قدمه السيد شرف الدين الموسوي في سبيل تبديد ما بدا غرابة في المعتقد الإمامي ببسط الدليل والبرهان على ثبوته، وأيضا تبديد الأراجيف التي حيكت ظلما وجهلا في حق الامامية ، أن يحاسب التجديف والحقائق الزائف على تراكمها المهول لا أن يستمر في تكريس ذلك. لكن هيهيات، فلقد ارتأى البعض أن يستمسك بعروة المكابرة ، والسير في تعرجات التجديف إلى منتهاه. ولا شك أن ما بدا شاذّا في مذهب الإمامية لم يعن الشيعة المتأخرين فحسب ، بل إن التهمة ذاتها كما عبر عنها ابن خلدون تطال أئمة أهل البيت أيضا ، حيث قال:" وشذّ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها". وليس أغرب من هذا قول ، لما يتهم الثقل الأصغر بما دلت عليه المتواترات، وبث بثا مكرورا في متن الصحاح ، بأنهم من أهل البدع . ومع أنك تجد ابن تيمية في غير ما مكان كردوده على المنطقيين ، يصنف أهل الحق والضلالة طبقات ، تتفاوت في المراتب ، حتى أنه ذكر بينها متشيعي السلف ، إلا أن هذه التراتبية دالة على أنهم وإن كانوا من السلف الصالح ، فهم في درجة دنيا ، حيث كلما انقرضت طبقة ممن رآهم أهل البدع ، ازداد شذوذ الأخرى. فالنيل من الشيعة لم يقتصر على المتأخرين ، بل مس أهل البيت والصحابة المتشيعين لهم. فلقد نال ابن خلدون من الصحابي الجليل عمار بن ياسر ، لما استصغر من شأن بصيرته ، وقال في حقه : (إلا عمار.. فلقد استماله قوم من السبئية). وحتى من كانوا يوصفون زيودا، كانوا في كتابات المتقدمين من المخالفين بمثابة روافض. وهو ما جعل بعض الأعلام من السنة يعبر عن فوضى الأسماء والتصنيفات بقوله: لو سئلوا ما معنى الرفض لما عرفوه. وقد عبر الشافعي عن هذه الفوضى بالأبيات الشهيرة:
ان كان الرفض حب آل محمد فليشهد الثقلان بأني رافض.
غير أن هذا جانب محدود من الفضاء الواسع الذي امتد إليه مشروع السيد شرف الدين، أو لنقل إن ذلك لم يكن يمثل سوى بعضا من تلك المقاصد . وحتى لو سلمنا بأنه كان يمثل المقصد والمطلوب بالذات فثمة مقصد آخر بالتبع ، يتعلق بإرساء قواعد للتفكير التواصلي بين المدرستين ، كمقدمة لخلق مناخ للتعايش والسلم المجتمعي الذي تكون فيه السلطة للعلم والعقل في تناول الخلاف. وهكذا نجدنا أمام لوحة غمرتها أطياف من اللون في دعة وسماحة ندية كان أحرى بها أن تعكس الجانب العبقري النموذجي لعلم قدم نفسه للعالم الإسلامي كلا ، وليس لطائفته فحسب. وإذا كان السيد شرف الدين قد عمل جهده للدفاع عن أصول وفروع مدرسته ، فإنه فعل ذلك كخطوة ضرورية ومقدمة الواجب في نشدان التقارب الصحيح والوحدة المبنية على الوضوح والاعتراف. لقد شاء السيد شرف الدين أن يقيم التقارب والوحدة على أرضية سواء ، تبدد النظرة الاستعلائية للاتجاه النظير ، على أساس أنها مدرسة ليس في وسعها تقديم أدلتها على ما انفردت به من فروع وأصول. لقد أحيى السيد شرف الدين طريقة من سبقوه ، وأحيانا بكثير من التبسيط والتنهيج والأضبطية لمطالبها مع نهج الانتقاء للإشكاليات، مورد الخلاف ومثار الجدل في راهنه، على أساس الاقتصاد في الاستشكال وعدم الغوص في متفرعات ما لا ضرورة لاستحضاره اليوم إما لدوس الزمان لزيف حقيقته أو لاندراسه بفعل النسيان وجولة التاريخ وسطوع ما كان مستحيلا بروزه والتفكير فيما كان مستحيلا التفكير فيه. فللأباطيل كغيرها من الظواهر الثقافية والبيولوجيا عمر محدود وفرصة للبقاء مستنفذة ، ونشوء وتطور واضمحلال. فليس كل الأباطيل تملك التعدي بالعمر أكثر مما يمنحها إياه التاريخ بمكره الخفي وسنن الله التي لا يبارزها مكر البتة. وليؤكد للمختلف ، أنه إذا لم يكن في الوسع تبني ما ظهر لك دليله بالأدلة المعتبرة ، فلك على الأقل أن تدرك بأن قطع أبناء هذه المدرسة بعقائدهم في الأصول وأحكامهم في الفروع ناشي عن قناعة في الجملة . ما يجعله قطعا تكاملت حجيته بعين العقل، بلا جعل من جاعل. ومعتبرا في عين الشرع الذي تعبدنا بالحجة والدليل. أي شاء السيد شرف الدين أن يعلم من لم يعلم أو من خانه عدم الاطلاع على آثار هذه المدرسة ، أنها ليست كما هي معروضة في ثقافة كتاب ومؤرخي الملل والنحل ، مدرسة مصنفة في خانة أهل الأهواء والعقائد الشاذة. بل هي مدرسة أهل النص والدليل كما دلت على ذلك كل آثاره وفي مقدمتها : "النص والاجتهاد".
فقد قدّم الكتاب المذكور ، الذي أظهر فيه السيد شرف الدين الموسوي براعة ناذرة في الفقه المقارن ، وقدرة فائقة على الاقتصاد في تتبع موارد الخلاف ، حججا شرعية ، تؤكد على أن ما من رأي أو اعتقاد لدى الإمامية إلا وقام على النص، بمدركيه القرآني والروائي ، وبأقرب التأويل وليس أبعده . بل لقد كان في وارد الموازنة بين المدرستين في مدى تشبث كليهما بالنص ، فأثبت بأن الإمامية كانوا مشدودين من الأعناق بدليل النص ، حيث أظهر أن أكثر الاجتهادات التي سلكت منحى غير النص ، كانت بمنزلة الرأي المنزوع الشرعية في المقام ، لأنه اجتهاد مع النص. وقد علمت أنه من مستقبح الاجتهاد.
***
تعكس اهتمامات السيد شرف الدين الموسوي كل هذه الأبعاد التي تبدو للكثير ممن لم يستوعب امتداد رؤيته الشمولية والاستراتيجية ، مختلف آثاره التي تبدو متناقضة الأهداف ، متى استسلمنا للنظرة المذكورة. ولعل ذلك ما جعل الكثير من خصومه أن ينعتوه بأنكر النعوت ، حيث لم يقفوا عند المحتوى العلمي لأعماله بقدر ما اكتفوا بخلع الصورة النمطية على نهجه باعتباره واحدا من الرافضة المخادعين ، وهي الصورة التي عمل حياته على أن يكسرها كسر الأصنام التي تحول بين العقل ورؤية الأشياء كما هي. فمن يقرأ النص والاجتهاد والمراجعات وما جرى مجراهما من أعمال تتصل بالخلاف ويظهر منها إصرار على الدفاع عن مدرسة أهل البيت ( ع ) ، مقارنة بكتاب الفصول المهمة في تأليف الأمة ، سيعتقد لا محالة أنه أمام ازدواجية في الخطاب.غير أن سبب هذه الرؤية النمطية التي ما انفكت بحال عن أعلام مدرسة أهل البيت ، إلا لماما، من قبل عقلاء ومنصفين من هذه الأمة ، هم شجعان بما فيه الكفاية لكسر تابو الرؤية النمطية المهجوسة بتبديع الآخر وأخذ اعتقاداته مأخذ استخفاف ، بسلب الدليلية عنها ونسبتها إلى آراء أهل البدع و الأهواء جملة وتفصيلا؛ أجل ، لعل السبب في استمرارية هذه النزعة هو استمرارية مفعول سكر المكابرة وهواجس الغلب ، التي تحول دون منح قليل من السماع لفكر المختلف وتأمله بعقل لا بانفعال. إن رجلا كالسيد شرف الدين يؤلف فيما يؤلف الأمة ويقاوم الاستعمار الفرنسي ويدعو إلى مشاريع وطنية وقومية رافضا الاحتلال والتجزئة، ورافعا شعار الوحدة العربية على أساس توحيد برامج التعليم العربية ورفع الحواجز الجمركية والدعوة إلى الجيش العربي الموحد ، لا يمكن إلا أن يكون شخصية تتطلع إلى ما وراء الأحياز الضيقة للطائفة . فالذي ضاق عليه القطر على تنوعه يومها ، ستكون الطائفة في وجدانه أضيق. ولذا كان السيد شرف الدين ينزع إلى المدى الأوسع الذي تكون فيه الأمة برمتها هي طائفته والإسلام كلا هو مذهبه. إن منشأ هذا التحامل الذي بدا من بعض الخصوم الذين أزعجتهم القوة الاستدلالية للسيد شرف الدين وإصراره على الدفاع عن مدرسته الفقهية والكلامية ، لم يلتفتوا إلى أن أمر التقارب والوحدة ليس نزهة سهلة أو التفافا يسيرا على حكاية بالية ، بل هو واقع تاريخي واجتماعي ثقيل يجب التعامل معه بهمة وشجاعة، والتقيد بشروط المرحلية ومقدمات العمل. وفي مقدمة هذه الأسس ، أن يدرك المختلف ما أحرزت هذه المدرسة من صنوف الأدلة المعتبرة على آرائها ، حيث لو كان التقارب يجب أن يبنى على أساس الصمت وعدم الاستدلال على صدق مدعى المدرسة ، لكانت وحدة غير جادة ، صورتها التقريب ومضمونها الاعتراف بعدم حجية ما تدعو إليه هذه المدرسة أو تلك .
ولعل هذا من الآفات التي تواجه رسالة التقريب اليوم ، حيث رأى البعض العمل على تجفيف منابع الخلاف بالتخلص من كل ما لا يرضي هذا الطرف أو ذاك. وسوف تكون الأمة لو سلكت ذلك الدرب ، الذي يبدو في الأصل مستحيل التحقق ، سابقة في تاريخ الأمم في التواطؤ على الحقائق والالتفاف على الدليل. ستكون أمة جبانة لأنها لا تستطيع مواجهة مصيرها بوعي وتصحيح منابعها على أساس الدليل لا على أساس التراضي . وقد تصبح تلك العملية مفيدة ومجدية فقط وفقط لما يتم التعارف بين المدارس الإسلامية والاستئناس المتبادل بما اختصت به هذه المدرسة أو تلك . لقد أراد السيد الموسوي أن يقول : إن مدار التوافق والاختلاف هو الدليل ، والاختلاف بدليل هو أشرف من الاتفاق بلا دليل. ومع ذلك فإن اختلاف الأمة القائم على الدليل يوجد شعورا عند المختلف بضرورة تفهم مواقف النظير . من هنا فقط يكون "اختلاف أمتي رحمة". والاختلاف إلى العلماء الحقيقيين ـ الذين هم أعلام الفقه المقارن، بشقيه الفقه الأكبر والأصغر، حيث أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس ـ . وهذا كناية عن أن الخلاف الذي يؤسس اعتباره على أرضية علمائية موضوعية مبنية على الحوار والتواصل ، هو ما يجعل الخلاف رحمة. بهذا المعنى يكون الاختلاف إلى العلماء أساس الاختلاف الرحيم . الاختلاف إلى العلماء بالقيد الاحترازي المذكور؛ أي العلماء العالمين بالاختلاف ـ في المقام ـ والمنصفين.