انّ حمل الرسالة الاسلامية وتقريرها في واقع الحياة ليس بالتكليف الهيّن أو اليسير وخصوصاً في بداية الدعوة الاسلامية; لانّه تكليف جديد في أجواء جاهلية إستأنس بها الناس وخصوصاً قادة ورؤساء العشائر، فهم لا يريدون التحوّل عن واقعهم الذي منحهم إمتيازات ومكاسب لا يجدونها في واقع آخر تسوده العدالة والمساواة، وتسوده الفضائل والمكارم، فهو تكليف يصطدم بهذه المصالح والمنافع، ويصطدم بكبرياء وغرور البعض الذي لا يريد التنازل عن آرائه وممارساته التي أصبحت جزءاً من كيانه وكرامته، ويصطدم بنزوات وشهوات البعض الآخر، ويصطدم برواسب الجاهلية، ويصطدم بمن لا يرغب التسامي والتكامل والاستقامة.
ومن هنا فانّ المجتمع الاسلامي الناشيء بحاجة الى تكاتف وتآزر أفراده في ظروف قلة الناصر وضعف المعين، وفي ظروف سيادة مفاهيم وقيم الجاهلية وإمتلاك متبنيها للمال والسلاح والأتباع والمناصرين، ولهذا وجّه رسول الله(ص) الجماعة المسلمة الى المضي في طريق العمل والفعّالية الجماعية، لكي يؤازر أفرادها بعضهم البعض الآخر ويتعاونوا أمام التحديات الخطيرة التي تواجههم، فوجّه أنظارهم وممارساتهم الى العمل الجماعي لكي لا يشعروا بالوحشة والانفراد.
فكان المسلمون الأوائل يتجمعون في بعض الشعاب لأداء الصلاة، وتعلّم القرآن، والعقائد، والأحكام الاسلامية، وكانوا يجتمعون حلقات حلقات في بعض المنازل على الرغم من ظروف الدعوة السرية والكتمان( ) .
وأوّل عمل قام به رسول الله(ص) بعد الهجرة الى المدينة هو بناء مسجد «قبا» للاجتماع به في الصلاة، وتلقي العقائد والأحكام الاسلامية، وتداول أمور المسلمين.
ثم تحوّل من قبا الى بني سالم بن عوف فخطّ لهم مسجداً فصلّى بهم الجمعة ركعتين وخطب خطبتين( ) .
وبادر رسول الله(ص) الى بناء مسجد المدينة قبل أن يبني له بيتاً، وكان العمل مشتركاً بين المهاجرين والأنصار، فاصبح المسجد مركزاً للعبادة والصلاة والوحدة ومدرسة للتربية والتعليم.
وخطب في المسجد خطبتين، أكّد في الخطبة الثانية على التحابب في الله، ليكون أساساً مشتركاً يتوحد تحت ظله المسلمون، ومما جاء في الخطبة: «... أحبّوا ما أحبّ الله من كلّ قلوبكم.. وتحابّوا بروح الله بينكم، إن الله يغضب أن ينكث عهده، والسلام عليكم»( ).
ثم شرّع الأذان ليكون أداة ووسيلة للأعلام عن الصلاة والاجتماع في المسجد، وهو وسيلة لوحدة المسلمين وجمعهم، ثم شرّعت صلاة الجنائز، وهي صلاة وحدوية يشترك فيها جميع المسلمين.
وكان رسول الله(ص) لا يحلّ بمحلة أو مدينة إلاّ بدأ ببناء المسجد الذي هو مَعْلم من معالم الوحدة حيث يشترك الجميع في بنائه والصلاة فيه جماعة.
وشجّع(ص) على العمل الجماعي في جميع المجالات ; في الاستطلاع العسكري، وفي بناء المواقع العسكرية، كاشتراك المهاجرين والأنصار في بناء المسجد.
قال ابن اسحاق: «نزل رسول الله(ص) على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه، وعمل فيه رسول الله(ص) ليرّغب المسلمين في العمل فيه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار، ودأبوا فيه، فقال قائل من المسلمين.
لئن قعدنا والنبيّ يعمل لذاك منّا العمل المضلّل
وارتجز المسلمون وهم يبنونه يقولون:
لا عيش إلاّ عيش الآخرة اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة
فيقول رسول الله(ص): «لا عيش إلاّ عيش الآخرة اللهمّ ارحم المهاجرين والأنصار»( ).
واشترك رسول الله(ص) مع المهاجرين والانصار في حفر الخندق، فعن البراء قال: «رأيت النبي(ص) يوم الأحزاب ينقل التراب، وقد وارى التراب بياض بطنه» .