السيد عصام أحميدان
إذا كنا في الحلقة السابقة سجلنا على الحركة الإسلامية المغربية عدم فقهها للواقع الثقافي والاجتماعي الذي تتحرك على قاعدته ، فإننا في هذه الحلقة نود أن نسلط الضوء على مسألة أخرى جوهرية وهي "فقه الدين" ..فهل الحركة الإسلامية بالمغرب توجد في علاقة طولية أم عرضية مع الفقهاء ؟ وهل أحرزت هذه الحركة الإسلامية في بنائها التنظيمي وعملها المندرج في إطار الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشرعية الدينية لذلك ؟
قد يبدو من المألوف إلى درجة البداهة لدى أكثر الناس أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو واجب كفائي إذا قام به البعض سقط عن الكل ولو لم يقم به ذلك البعض أثم الكل ..كما أن الانطباع السائد لدى الجمهور وجمهور الحركة الإسلامية تحديدا حدد وظيفة الحركة الإسلامية في وظيفة ذلك البعض الذي ينوب عن الكل في مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..
وسنعمل في هذه الحلقة على مساءلة تلك البديهيات ومناقشة منطقها الحجاجي وأدواتها البرهانية ، فالله سبحانه وتعالى يقول ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) "سورة آل عمران، الآية : 104 " ، وقد ادعت الجماعات الإسلامية أنها تستمد شرعيتها من عنوان "الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ، غير أننا نتساءل عن مقصود الله عز وجل من كلمة "أمة" ، فالأمة في الاستعمال القرآني جاءت بمعاني مختلفة : " الملة والزمان والإمام والجماعة" ..وبحسب التفاسير فالمقصود من "الأمة" في الآية السابقة الذكر "الجماعة" القائمة بالدعوة إلى الخير والآمرة بالمعروف والنهاية عن المنكر ..لكن ما مواصفات هذه الجماعة وشروطها ؟ هل هي جماعة من عامة الأمة ؟ أم هي جماعة ذات مواصفات محددة ؟
انطلاقا من الإيمان بأن القرآن الكريم وحدة موضوعية متكاملة ، وحكم القرآن في نظمه وانسجامه كحكم الآية الواحدة ، وحيث أن أفضل وأشرف تفسير للقرآن الكريم هو "تفسير القرآن بالقرآن نفسه " ، فنتأمل هذه الآية الكريمة من قول الله عز وجل في سورة التوبة : " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " " سورة التوبة : الآية 122 " ، فما علاقة التفقه في الدين بعملية الإنذار ؟
وقد أورد الحسين بن مسعود البغوي في تفسيره ثلاث أوجه لهذه الآية الكريمة وذلك في الجزء الرابع من تفسيره ، كما أورد الطبري في الجزء الرابع عشر من تفسيره أوجه مختلفة لتفسير هذه الآية الكريمة ، كما ذكر القرطبي في الجزء الثامن من تفسيره اختلاف المفسرين حول هذه الآية فقال : " الرابعة : قوله تعالى ( ليتفقهوا ) الضمير في " ليتفقهوا ، ولينذروا " للمقيمين مع النبي صلى الله عليه وسلم ; قاله قتادة ومجاهد . وقال الحسن : هما للفرقة النافرة ، واختاره الطبري . ومعنى " ليتفقهوا في الدين أي يتبصروا ويتيقنوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين" .
قلت : قول مجاهد وقتادة أبين ، أي لتتفقه الطائفة المتأخرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفور في السرايا " .
ونقول إنما اختلف المفسرون في نسبة التفقه لأهل النفر إلى الجهاد أم لمن بقي مع رسول الله ص لأجل طلب العلم ، لكن هناك إجماع على أن أهل التفقه هم الإنذار
بلا خلاف .
وفي قوله تعالى : "ليتفقهوا ولينذروا قومهم " ندرك تماما أن التفقه شرط في الإنذار ، والإنذار هو تخويف الناس عذاب الله بعد بيان المعروف والحث عليه ، وبيان المنكر والنهي عنه ، فنكون بذلك قد توصلنا إلى حقيقة تلك "الأمة" الآمرة بالعروف ، الناهية عن المنكر ..فهي "أمة متفقهة في الدين" ..
و"التفقه" ليس مجرد الإطلاع على العلم بل التمكن من منطقه الاستدلالي ، وهو ما عبر عنه بصريح القول القرطبي في تفسيره إذ قال : " قلت : قول مجاهد وقتادة أبين ، أي لتتفقه الطائفة المتأخرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفور في السرايا . وهذا يقتضي الحث على طلب العلم والندب إليه دون الوجوب والإلزام ، إذ ليس ذلك في قوة الكلام ، وإنما لزم طلب العلم بأدلته ، قاله أبو بكر بن العربي".
فاللازم بحسب الطبري وابن العربي هو طلب العلم بأدلته لا مجرد طلب العلم ، والاطلاع العام على الأحكام الشرعية ..كما أن الفقهاء في حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فصلوا شروطا لا يمكن لغير الفقيه التوفر عليها " أن يكون عالما بالمعروف وعالما بالمنكر وألا يؤدي نهيه عن المنكر إلى منكر أشد " .
من هنا ، وباختصار نقول إن الجماعات الإسلامية إذا كانت أقامت شرعيتها التأسيسية من هذا العنوان " الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" فإن هذا العنوان من لوازمه التفقه في الدين وهو من خصوصيات الفقيه لا من وظائف العوام ، ولو قام به العامة كان من باب إسناد الأمور إلى غير أهلها ، ويجلب للمجتمع فوضى دينية كبيرة .
كان يمكن للحركة الإسلامية عموما وبالمغرب خصوصا أن تحدد لنفسها دورا لا يتعارض مع دور الفقهاء ، كأن تكون في علاقة طولية معهم ، بحيث أنها تستمد شرعية تحركها منهم ، لا أن تنزع عنهم تلك الوظيفة بغير وجه حق ..وقد لاحظنا كيف انسحب الراحل الأستاذ فريد الأنصاري من حركة التوحيد والإصلاح وأصدر كتابا انتقد فيه الحركة الإسلامية المغربية ، كما لاحظنا كيف تم إبعاد الدكتور أحمد الريسوني من رئاسة الحركة من خلال ضغط شديد ..ولاحظنا كيف أن كثيرا من هذه الملاعات تضع علماءها تحت عوامها ، يأتمرون بأوامرهم وينتهون بنواهيهم ..
إننا من خلال "الائتلاف الإسلامي الأمازيغي" بالمغرب أكدنا على ضرورة إعادة اااعتبار لدور العلماء ، لكن قيدنا ذلك باستقلالية العلماء وفاعليتهم في المجتمع ، فعدم استقلالية العلماء تفقدهم شرعيتهم الاجتماعية وتضعف تأثيرهم اامجتا عي ، ولو تنبهت السلطة لهذا الأمر ، فإن المصلحة في تحرير العلماء والتنسيق معهم بعيدا عن المنطق التاريخي الذي اتجه إما إلى التوظيف السياسي للعلماء أو سحب االعتراف بالمستقلين منهم وإضعاف نفوذهم اامجتا عي .
كما نؤكد على أن علاقتنا في دائرة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن تكون مع العلماء في خط طولي لا عرضي ، تعزز شرعية العلماء المستقلين ولا تنازعهم إياها ..خلافا لما هو سائد اليوم في الم اعات الإسلامية المعاصرة .