د. إبراهيم علوش
العرب اليوم 13/12/2011
يعتبر ميزان مدفوعات أي دولة مرآة لعلاقاتها الاقتصادية مع بقية دول العالم، وهو يكشف الكثير من مواطن قوتها وضعفها. فإذا نظرنا لملخص إحصائيات ميزان المدفوعات التركي على مدى السنوات المنصرمة، اعتماداً على أرقام موقع البنك المركزي التركي على الإنترنت، الذي يعطينا إحصائيات مفصلة لميزان المدفوعات التركي منذ عام 1975، أي منذ أكثر من خمساً وثلاثين عاماً، فإننا نلاحظ ما يلي:
1) أن الحساب الجاري في ميزان المدفوعات يعاني عجزاً مزمناً في أغلب السنوات، ما عدا سنوات قليلة، وأن أخر سنة كان يوجد فيها فائض بالحساب الجاري (بقيمة 3،76 مليار دولار)، كانت السنة التي سبقت وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، ومنذ عام 2002، انفجر العجز في الحساب الجاري التركي أسياً، ووصل مستويات لم تعرفها تركيا من قبل، حتى بلغ ذلك العجز أكثر من 47 مليار دولار عام 2010، وكان قبلها لا يزيد عن عشرة مليارات من الدولارات في أسوأ السنوات، مثل عام 2000.
2) أن السبب الرئيسي لذلك العجز في الحساب الجاري، ولن تصدقوا هذه وأنتم ترون السلع التركية تغرق الأسواق العربية بمنتجاتها، هو العجز في الميزان السلعي، أي أن قيمة واردات البضائع إلى تركيا أكثر كثيراً من قيمة صادرات تركيا من البضائع!!! وكذلك نما ذلك العجز في الميزان التجاري أو السلعي بشكل أسي منذ وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، حتى وصل ذلك العجز أكثر من 56 مليار دولار عام 2010. فتركيا لا “تشبِّح” بصادراتها إلا على العرب، وما عدا ذلك فإنها لا تعتبر دولة مصدرِة أبداً، بل دولة مستوردة… والأرقام بيننا من البنك المركزي التركي لمن يرغب أن يتحدى هذا الاستنتاج.
3) أن ما يخفف من ذلك العجز في الميزان السلعي هو فائض أصغر منه بكثير في الميزان الخدمي، أي الفرق بين الصادرات والواردات من الخدمات، مثل السياحة والشركات التركية التي تقوم بخدمات الإنشاءات خارج تركيا والشحن الخ…، ولكم أن تتخيلوا فقط نسبة الزبائن العرب من ذلك الفائض، وقد بلغ عام 2010 حوالي 15 مليار دولار…
4) لكن ما يعود ليقوي العجز في الحساب الجاري التركي بعد ذلك هو العجز في صافي الدخل الخارجي، أي الفرق بين عائدات العمال ورأس المال التركي في الخارج، وعائدات رأس المال الأجنبي في تركيا، وهو عجز انفجر بشكل أسي في ظل حزب العدالة والتنمية، على الرغم من أنه كان قائماً قبلها، فهو صفة هيكلية للاقتصاد التركي، لكنه أصبح أسوأ بكثير في ظل حزب العدالة والتنمية، وقد بلغ العجز في صافي الدخل الخارجي ما بين 7 إلى 8 مليارات من الدولارات في الأعوام الأخيرة.
5) ويعود سبب العجز في صافي الدخل الخارجي التركي أن الأتراك يدفعون ما بين 10 إلى 15 مليار دولار سنوياً لرأس المال الأجنبي العامل في تركيا، أي كأرباح، أو كأقساط وفوائد ديون، وهو ما يخسف حفنة المليارات التي يرسلها العمال الأتراك في أوروبا، أو أرباح رأس المال التركي العامل في الوطن العربي وأوروبا الشرقية.
6) وهذا يقودنا إلى نقطة مركزية، وهي أن “المعجزة الاقتصادية التركية” المزعومة هي من صنع رأس المال الأجنبي أساساً، الأوروبي بالتحديد، وتظهر إحصائيات الحساب المالي التركي أن الاستثمار الأجنبي المباشر، أي الاستثمار في المنشآت الملموسة كالمصانع مثلاً، لا الأسهم والسندات، انهمرت على تركيا بالأخص منذ مجيء حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، حتى بلغت عشرة مليارات دولار عام 2005، ثم أكثر من عشرين ملياراً عام 2006، ثم أكثر من 22 ملياراً عام 2007، ثم حوالي عشرين ملياراً عام 2008، ولم تنخفض إلى نصف ذلك بعدها إلا بسبب الأزمة المالية الدولية.
7) وكذلك تدفقت رؤوس الأموال الأجنبية بغزارة على شكل استثمار غير مباشر بين عامي 2003 و2007، ولكن بمستوى أقل من الاستثمار المباشر، وعادت للانخفاض بعدها. فالاستثمار الأجنبي في تركيا أخذ عامة صفة استثمار مباشر، في المصانع والبنية التحتية والمنشآت، أكثر مما أخذ طابع استثمار في الأوراق المالية، ومن هنا يجني أرباحه عبر صافي الدخل الخارجي في الحساب الجاري.
باختصار، رأس المال الأوروبي والغربي كان قد قرر جعل تركيا مركزاً إقليمياً، قبل الأزمة المالية الدولية، فهذا ليس مشروع تنموي مستقل، بل مشروع ملحق برأس المال المالي الدولي، تماماً كما تركيا عضو في حلف الناتو ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD، التي تضم اقتصادات السوق الحرة الرأسمالية في العالم. وقد وجدنا من موقع وكالة دعم وترويج الاستثمار التابعة لرئاسة الوزارة التركية أن أكثر الاستثمار الأجنبي المباشر في تركيا، عبر سنوات حكم حزب العدالة والتنمية، جاءت من الاتحاد الأوروبي. وقد ساعد هذا على بروز عدد من الشركات التركية، حتى وصلت 12 منها إلى قائمة أكبر 2000 شركة عالمية عام 2010 حسب مجلة فوربز، وهذا ليس شيئاً خارقاً للعادة. فرأس المال الأوروبي هو الأساس.
عموماً قد يفسر كل هذا حاجة تركيا لإزاحة سوريا من الطريق إلى الإقليم، ولكنه يفسر أيضاً أن سوريا بإمكانها أن تخنق تركيا اقتصاديا في الإقليم، خاصة إذا تعاون معها العراق على ذلك!