- قال المؤرّخ الشهير تقي الدّين المقريزي الشافعي (845 هـ) :
"
فانظر رحمك الله كيف لم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم القرابة في
النسب وحدها قرابة معتبرة في أحكام الله عز وجل ما لم تقترن بها القرابة
الدينية، فإنه كما قد رأيت أخرج بني أمية من ذوي القربى مع كونهم بني أبيه
عبد مناف بن قصي، لما كان من عداوتهم له في دين الله تعالى وتكذيبهم لما
جاء به من النبوة والرسالة، وكيف جعل بني المطلب بن عبد مناف من ذوي القربى
لأجل مسالمتهم له في الجاهلية وتسرعهم إلى مناصرته ومؤازرته وموالاته
ومعاضدته وأنهم لم يربؤوا بأنفسهم عن نفسه، بل أمدوه بأنفسهم حيث تخلى عنه
الناس ودخلوا معه الشعب مؤمنهم وكافرهم، فالمؤمن دينا والكافر حمية، وتأمل
ذلك يظهر لك منه فائدتان إحداهما : أن العبرة بقرابة الدين لا بقرابة
الطين.
والثانية
: أن مجرد القرابة ليس بشيء، وقد قيل أقرب الوسائل المودة وأبعد النسب
البغضاء قال : وأرى القرابة لا تقرب قاطعا وأرى المودة أكبر الأسباب وقال
الأعشى: ولا تطلبن الود من متباعد ولا تأمنن ذي بغضة إن تقربا فإن القريب
من يقرب نفسه لعمر أبيك الخير لا من تنسبا فإذا أقرب الوسائل المودة، وأبعد
النسب العقوق، وقد قال تعالى:
" إنما
المؤمنون إخوة " (1) فقاربت(2)
ولاية الإسلام بين الغرباء. وقال تعالى: " إنه ليس من أهلك إنه عمل غير
صالح"(3) فباعد به بين القرابة.
ثم إني
أقول يا عجبا كيف يستحق خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته
شرع*ا من لم يجعل له حقا في سهم ذي القربى، أم كيف يقيم دين الله من قاتل
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونابذه وكايده وبذل جهده في قتله؟!
وليت
إذ ولي بنو أمية الخلافة عدلوا وأنصفوا، بل جاروا في الحكم وعسفوا
واستأثروا بالفئ كله وحرموه بني هاشم جملة، وزادوا في العتو والتعدي حتى
قالوا إنما ذو القربى قرابة الخليفة منهم، وحتى قرروا عند أهل الشام أنه لا
قرابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يرثونه إلا بني أمية، فلما قام
بالأمر أبو العباس عبد الله بن محمد ابن علي بن عبد الله بن عباس المنعوت
بالسفاح، وقتل مروان بن محمد بن مروان ابن الحكم آخر خلائف بني أمية وأزال
دولتهم دخل عليه مشيخة من أهل الشام، فقالوا والله ما علمنا أن لرسول الله
صلى الله عليه وسلم قرابة يرثونه إلا بني أمي*ة حتى وليتم فقال إبراهيم بن
مهاجر:
أيها
الناس اسمعوا أخبركم ** عجبا زاد على كل عجب
عجبا
من عبد شمس إنهم ** فتحوا للناس أبواب الكذب
ورثوا
أحمد فيما زعموا ** دون عباس وعبد المطلب
كذبوا
والله ما نعلمه يحرز ** الميراث إلا من قرب
وحتى
صعد الحجاج بن يوسف يوما أعواد منبره وقال على رؤوس الأشهاد : أرسولك أفضل
أم خليفتك ؟ يعرض بأن عبد الملك بن مروان بن الحكم أفضل من رسول الله صلى
الله عليه وسلم فل*ما سمعه جبلة بن زحر قال : لله علي ألا أصلي خلفه أبدا،
وإن رأيت من يجاهده لأجاهدنه معه، فخرج مع عبد الرحمن بن الأشعث وقتل معه.
ولقد اقتدى بعدو الله الحجاج في كفره ابن شفى(4)
الحميري: فإنه قام بمجلس هشام بن عبد الملك، وقال أمير المؤمنين خليفة
الله وهو أكرم على الله من رسوله فأنت خليفة ومحمد رسول الله. وحتى أن يوسف
بن عمر عامل هشام قال في خطبته يوم الجمعة: إن أول من فتح على الناس باب
الفتنة وسفك الدماء علي وصاحبه الزنجي، يعني عمار بن ياسر رضي الله عنه.
فهذا كما ترى وإلى الله المشتكى.
وقد
خرّج الحاكم من حديث سفيان عن أبي إسحاق عن عمرو ذي مر عن علي بن أبي طالب
رضي الله عنه في قوله عز وجل: " وأحلوا قومهم دار البوار"(5) قال: هما الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة،
فأما بنو المغيرة فقد قطع الله دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى
حين. قال الحاكم: هذا حديث صحيح(6).
وسئل
علي رضي الله عنه عن بني أمية وبني هاشم فقال : هم أكثر وأنكر وأمكر، ونحن
أفصح وأصبح وأسمح(7). وقال أبو بكر بن أبي شيبة
حدثنا حشرج بن نباته قال حدثني سعد بن جمهان قلت لسفينة إن بني أمية يزعمون
أن الخلافة فيهم. فقال : كذب بنو الزرقاة بل هم ملوك من أشد أشد الملوك
وأول الملوك معاوية(. وما
زلت طول الأعوام الكثيرة أعمل فكري في هذا وأشباهه التي يطول ذكرها، وأذاكر
به من أدركت من مشيخة العلم ومن لقيت من حملة الآثار ونقلة الأخبار، فلا
أجد في طول عمري سوى رجلين: إما رجل عراه ما عراني وساءه ما قد دهاني فهو
يحذو في المقال حذوي ويشكو من الألم شكواي. وإما رجل يرتع في ميدان تقليده
ويجول في عرصات تهوره وتفنيده، فلا يزيدني على التهويل والهدر الطويل، إلى
أن اتضح لي والحمد لله وحده سبب أخذ بني أمية الخلافة ومنعها بني هاشم،
وذلك أن إعجاز الأمور لا تزال أبدا تالية لصدورها، والأسافل من كل شئ تابعة
لأعاليها، وكل أمر كان خافيا إذا انكشف سببه زال التعجب منه، وما بعد على
من بعد سبب أخذ بني أمية الخلافة وتقدمهم فيها على بني هاشم إلا من أجل
الإعراض عن الاعتناء بتعرف أوائل ذلك، وقلة البحث عن غوامضه، وإن الشيء لم
يوضع في مواضعه وإنما سلك فيه الكافة - إلا قليلا - مذهب التعصب، الواجب
على العاقل بعد معرفة ما خفي من السبب الاذعان والتسليم وترك الاعتراض
فماذا بعد الحق إلا الضلال".
ــــــــــــــــــــــــ
(1)
الحجرات، 49 / 10.
(2)
في نسخة : فقارنت.
(3)
هود، 11 / 46.
(4)
في نسخة : ابن شقي، بالقاف.
(5)
إبراهيم، 14 / 28.
(6)
الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين وبهامشه التلخيص؛ تحقيق: مصطفى
عبد القادر عطا، (ط1، بيروت: دار الكتب العلمية، 1411 / 1990)،2 / 383، حديث رقم 3343
وقال الذهبي في التلخيص: صحيح.
(7)
نهج البلاغة: خطب وحكم الإمام علي (ع)؛ شرح محمد عبده، (ط1، قم: دار
الذخائر، 1412هـ)، 4 / 28، حكمة رقم 120.
(
ابن أبي شيبة الكوفي، المصنف، (ط1، الرياض: مكتبة الرشد، 1409)، 7 / 271،
حديث رقم 36005. المصدر
المقريزي الشافعي، تقي الدّين أحمد بن علي (845 هـ)
النزاع
والتّخاصم بين بني أميّة وبني هاشم؛ تحقيق: السيد علي عاشور،[ لا طب ]، [
لا ت ]، ص 70 - 74.