أين الأمانة في نقل الحديث النبوي ؟
يلقي هذا الموضوع الضوء على التحريف اللفظي والمعنوي لأحاديث النبي صلى الله عليه وآله الذي مارسه الرواة دون رادع من دين ولا تقوى ، وهو موضوع لم يلق أهميته من التتبع والبحث ولعله ينبه الباحثين إلى أهميته ودراسته
والحديث الذي نستعرضه متفق عليه، يعني في أعلى درجات الصحة عند القوم ، ولكنه محرف ومبتور للأسف، تم حذف تكملة الحديث فتغير المعنى رأساً على عقب : من تفضيل لخديجة سلام الله عليها إلى تأخيرها وتقديم غيرها!! تحريف لفظي ومعنوي فاضح يدل على بشاعة ما كان يفعله بعض الرواة الموثقين للأسف وهم أبعد ما يكون عن الأمانة العلمية ! أمثل هؤلاء الرواية مؤتمنون على دين الله ويؤخذ الدين عنهم؟
أولاً :
نستعرض الحديث المبتور والمحرف في الصحيحين :
1 - استأذنت هالة بنت خويلد ، أخت خديجة ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك ، فقال : ( اللهم هالة ) . قالت : فغرت ، فقلت : ما تذكر من عجوز من عجائز قريش ، حمراء الشدقين ، هلكت في الدهر ، قد أبدلك الله خيرا منها .
الراوي: عائشة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري
صحيح مسلم :
حدثنا سويد بن سعيد حدثنا على بن مسهر عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت : استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه و سلم فعرف استئذان خديجة فارتاح لذلك فقال اللهم هالة بنت خويلد فغرت فقلت وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت من الدهر فأبدلك الله خيرا منها
هذا هو الحديث في الصحيحين ، وهو يقف عند أن الله أبدل نبينا الكريم خيراً من خديجة فقط وتم بتر باقي الحديث! وبما إن إقرار النبي صلى الله عليه وآله وسكوته حجة فالحديث بهذه الصيغة يدل أن خديجة سلام الله عليها ليست أفضل زوجات النبي صلى الله عليه وآله ..وهذا هو التحريف بعينه والبتر الفاضح وفي أصح كتب الأحاديث وأصح مراتب الحديث عند القوم التي يصفونها بـ (متفق عليه)
وهذا ما فهمه أحدهم من هذا الحديث المبتور ، ففي فتح الباري :
(قَالَ اِبْن التِّين : فِي سُكُوت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَة دَلِيل عَلَى أَفْضَلِيَّة عَائِشَة عَلَى خَدِيجَة إِلَّا أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالْخَيْرِيَّةِ هُنَا حُسْن الصُّورَة وَصِغَر السِّنّ اِنْتَهَى ) انتهى بنصه المراد من نقله
ونفس هذا الفهم نقله ابن كثير ولكنه رد عليه وهذا كلام ابن كثير :
(وهذا ظاهر في التقرير على أن عائشة خير من خديجة إما فضلا وإما عشرة إذا لم ينكر عليها ولا يرد عليها ذلك كما هو ظاهر سياق البخاري .. إلخ)
وقال الألباني في ضعيفته وسننقد كلامه في الأسفل :
(ففي هذين الطريقين الصحيحين إقراره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة على قولها :"قد أبدلك الله خيراً منها".. إلخ)
أقول : هل لاحظتم كيف فعل بتر الباترين فعله؟
إن بتر الحديث من قبل أحد رواة الصحيحين غير المأمونين تسبب في تحريف المعنى وقلبه رأساً على عقب !
لكننا حين تقرأ الصيغة الكاملة خارج الصحيحين بدون تقشير ولا بتر تكتشف التلاعب وقلب المعنى ،، فإن للحديث تكملة بها يرجع المعنى الصحيح للحديث وفيها تفضيل خديجة سلام الله عليه على من سواها من زوجات النبي صلى الله عليه وآله ويأبى الله للحقيقة إلا أن تظهر..
فالحقيقة هي أن النبي صلى الله عليه وآله لم يسكت ولم يرض بهذا الكلام البذيء في حق خديجة سلام الله عليه.
ثانياً :
الحديث في صورته الصحيحة غير المقشرة والذي فيه تقديم خديجة على غيرها :
فقد روي بإسناد جيد أن النبي غضب من كلام عائشة غضباً شديداً ، وغضبه يدل على أنه لم يرض بأن خديجة أبدله الله خيراً منها أبداً، وهذه الرواية :
- ذكر رسول الله يوما خديجة فاطنب في الثناء عليها فادركني ما يدرك النساء من الغيرة فقلت لقد أعقبك الله يا رسول الله من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين قال فتغير وجه رسول الله تغير لم أره تغير عند شيء قط إلا عند نزول الوحي أو عند المخيلة حتى يعلم رحمة أو عذابا
الراوي: عائشة المحدث: ابن كثير - المصدر: البداية والنهاية - الصفحة أو الرقم: 3/126
خلاصة الدرجة: إسناده جيد
وقال ابن حجر في فتح الباري بعد ذكره لكلام ابن التين السابق مؤكداً صحة هذه الزيادة:
(بَلْ الْوَاقِع أَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ رَدّ لِهَذِهِ الْمَقَالَة ، فَفِي رِوَايَة أَبِي نَجِيح عَنْ عَائِشَة عِنْد أَحْمَد وَالطَّبَرَانِيِّ فِي هَذِهِ الْقِصَّة " قَالَتْ عَائِشَة فَقُلْت أَبْدَلَك اللَّه بِكَبِيرَةِ السِّنّ حَدِيثَة السِّنّ ، فَغَضِبَ حَتَّى قُلْت : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أَذْكُرهَا بَعْد هَذَا إِلَّا بِخَيْرٍ " وَهَذَا يُؤَيِّد مَا تَأَوَّلَهُ اِبْن التِّين فِي الْخَيْرِيَّة الْمَذْكُورَة ، وَالْحَدِيث يُفَسِّر بَعْضه بَعْضًا . وَرَوَى أَحْمَد أَيْضًا وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيق مَسْرُوق عَنْ عَائِشَة فِي نَحْو هَذِهِ الْقِصَّة " فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَبْدَلَنِي اللَّه خَيْرًا مِنْهَا آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاس " الْحَدِيث.. إلخ) انتهى المراد نقله
مسند أحمد :
25212 - حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا عفان وبهز قالا ثنا حماد بن سلمة عن عبد الملك بن عمير قال عفان أخبرنا عبد الملك بن عمير عن موسى بن طلحة عن عائشة : ان رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر خديجة فقلت لقد أعقبك الله عز و جل من امرأة قال عفان من عجوزة من عجائز قريش من نساء قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر قالت فتمعر وجهه تمعرا ما كنت أراه الا عند نزول الوحي أو عند المخيلة حتى ينظر ارحمه أم عذاب
تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم
وقال في موضع آخر : إسناده صحيح على شرط مسلم حماد بن سلمة من رجاله وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين
أقول والحديث أيضاً في صحيح بن حبان وفي المستدرك على الصحيحين وقال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه
وعلق الذهبي قي التلخيص : على شرط مسلم
والحاصل تصحيح جمع كبير من حفاظ السنة كما ذكرنا
أقول : فتتبع الحديث من مصادر أخرى يبين أن رسول الله صىلى الله عليه وآله لم يسكت ولم يقر قول عائشة! بل على العكس : ففقد غضب صلى الله عليه وآله من قولها غضباً شديداً.. فتكون النتيجة أن النبي لم يبدله الله بخير من خديجة سلام الله عليها، فخديجة هي الأفضل ولم يزوج الله رسوله امرأة خيراً منها
فالحديث إذاَ تم بتره وتقشيره في الصحيحين وقلب معناه، وأدت خيانة الأمانة هذه تأخير خديجة وتقديم غيرها ..
فهل راواي الصحيحين هذا الذي قام بهذا الفعل (ولم نعينه) موضع ثقة بعد هذا ؟؟؟؟
أخيراً : الألباني المتناقض لا يعرف ما يخرج منه
قال الألباني في ضعيفته
6224 - (كَانَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ ؛ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ . قَالَتْ [عائشةُ] : فَغِرْتُ يَوْماً فَقُلْتُ : مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُ حَمْرَاءَ الشِّدْقِ ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْراً مِنْهَا ! قَالَ : مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ خَيْراً مِنْهَا ؛ قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ ) .ضعيف بهذ ا التمام ... إلخ) انتهى بنصه
أقول : مع أن الألباني ضعف هذا السياق التام إلا أنه أقر في ضعيفته بصحة الجزء الذي أوردناه سابقاً ولكنه أخنس إلى الأرض في تفسير الحديث.. فقال ما نصه :
(نحوه في "مسند أحمد" (6/150 و 154) من طريق حماد بن سلمة عن عبدالملك بن عمير عن موسى بن طلحة عن عائشة ، وفيه بعد قوله : "الدهر" : قالت : فتمعر وجهه تمعراً ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي ، أو عند المخيلة حتى ينظر أرحمة أم عذاب ؟ .
قلت : ففي هذين الطريقين الصحيحين إقراره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة على قولها :"قد أبدلك الله خيراً منها".. إلخ) انتهى بنصه
أقول :
وفيه إقرار الألباني بصحة طريق حماد بن سلمة ، ولكن هذا المتناقض لا يعرف ما يخرج من رأسه عن ذكر خديجة سلام الله عليها ، فمع أنه يروي غضب رسول الله صلى الله عليه وآله من كلام عائشة ولكنه مع ذلك يدعي كذباً أن رسول الله صلى الله عليه وآله أقره عليها!! فيا سبحان الله يا سحبان الله! لكأن الرجل لم ينقل ويصحح غضب رسول الله صلى الله عليه وآله من كلام عائشة!! سبحان الله! فمن الهوى ما يعمي ويصم!
على كل حال فإن هذه الزيادة(والله ما أبدلني خيراً منها) التي ضعفها الألباني قد وقفت على تحسين الحافظين الهيثمي والشوكاني فأقل أحوالها أنه مختلف فيها وننقل ما وقفنا عليه : فقد ذكر الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد أن إسنادها حسن ، وكذلك حسنها الشوكاني في ذر السحابة
- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى فأحسن الثناء قالت فغرت يوما فقلت ما أكثر ما تذكر حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيرا منها قال أبدلني الله خيرا منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله أولادها وحرمني أولاد الناس
الراوي: عائشة المحدث: الهيثمي - المصدر: مجمع الزوائد - الصفحة أو الرقم: 9/227
خلاصة الدرجة: إسناده حسن
وكذلك :
الراوي: عائشة المحدث: الشوكاني - المصدر: در السحابة - الصفحة أو الرقم: 249
خلاصة الدرجة: إسناده حسن
أقول : وثبوت هذه الزيادة الأخيرة أو عدم ثبوتها لا يضر بأصل الحديث الذي فيه غضب رسول الله صلى الله عليه وآله من كلام عائشة وعدم إقراره لكلامها
في الختام :
هل كل رواة الصحيحين بعد هذا أمناء على حديث رسول الله صلى الله عليه وآله؟
وهل كلهم جازوا القنطرة كما يدعون ؟
أم أن مثل هؤلاء الرواية الباترين المحرفين للكلم عن مواضعه يجب أن يفضحوا على رؤوس الأشهاد ولا يقبل منهم قول ولا يؤخذ منهم دين؟