الفكرة الرئيسة التي نتحدث عنها هنا هي تقديم مشهد عقلاني لمدرسة من أعرق مدارس الاسلام ، الا وهي المدرسة الاسلامية الشيعية ، فهذه المدرسة عرفت ألوانا من البلورة والصياغة بمرور الزمن، فمن لون عقلي عرفته مع مثل المرتضى والمفيد و.. الى لون نقلي مع الصدوق والمجلسي و..
الى لون فلسفي عرفاني مع الملا صدرا والطباطبائي..
وفي خضم هذا التنوع قدمت عروض مختلفة لبناءأت هذا المذهب وافكاره وتصوراته، المذهب الذي استمد افكاره الرئيسة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) وائمة أهل البيت(عليهم السلام )، وثمة فريق إقتنع بطريقة لعرض هذا المذهب فيما إعتبرها فريق آخر ضارة به، ولا بد من إستبدالها بطريقة اخرى.
2ـ في هذا الوسط ظهر الإتجاه التقريبي ثلاثينات القرن العشرين ليبلغ أوجه في الخمسينات والستينات، ثم ليتراجع في الثمانينات مع الأسف الشديد، وفي هذا الجو هيمنت فكرة العرض العقلاني العام للمذهب الامامي، وتقوم هذه الفكرة التي نطورها هنا على ما يلي:
أـ تقديم مذهب أهل البيت(عليهم السلام) بعد إجراء جهود نقدية داخلية، تصفي هذا المذهب مما علق به بمرور الزمان، وهي سنة الأديان كلها والمذاهب، بل سنة كل أيديولوجيا، أنها تلصق بها عبر الأيام صورا وإشكالا بشرية سرعان ما ترسخ بوصفها مفاهيم دينية اصيلة فيما لا تكون كذلك، وأمثل على ذلك بفكرة الإنتظار، أي إنتظار الإمام المهدي (عليه السلام )(، فقد إعتبرت الاسباب متداخلة متواشجة لا نبحثها فعلا أساسا للتخلي عن المشاريع النهضوية الكبرى، الإجتماعية والسياسية والثقافية، بحجة إرتباط الدين بالمعصوم إرتباطا تعطيليا، فعطلت هذه المقولة قدرة القفزات النوعية الكبرى في بعض فترات هذا المذهب تاريخيا، الى أن رأينا شخصيات كبيرة منها الإمام الخميني تهب لممارسة نقد داخلي للنهوض بالأمة من سباتها، وتحريرها من المفاهيم التعطيلية.
من هنا، نهيب بكل القيمين على شؤون مذهب اأهل البيت(عليهم السلام) أن يتصدوا دوما لتبني هذا النقد الداخلي الهادئ، واأن لايخافوا منه أو يقلقوا، فعندما تدير أنت هذا النقد تصبح المخاطر الناجمة عنه أقل، ذلك أنك تضبطه وتحكم أمره حتى لايشهد إفراطا هنا أو تفريطا هناك.
ب ـ تقديم مذهب أهل البيت(عليهم السلام) وفق عروض عقلانية، ولا نقصد بالعقلانية هنا إبطال مفعول مقولات التعبد ومرجعية النص، بل إعتبارها أساسا ، والعمل على عرض المذهب الامامي مذهبا هرميا منظما منسجما، لا تبدو فيه نتوءأت أوتشوهات، وبعبارة اخرى: عرضه صورة متكاملة منطقية منسجمة تقوم بناءأتها بصورة مرتبة، يستسيغها العقل البشري،ويقبل بها، ويراها لا تجانب المنطق.
ولكي أضع مثالا تقريبيا، أذكر نظرية الإمامة في تفسيرها الفلسفي العرفاني المتأخر عند الشيعة، بقطع النظر عن صحة هذا التفسير، فإننا نجد أن هذه النظرية تقدم تصويرا عقلانيا منسجما للامامة أدق وأكثر إنسجاما من نظرية المتكلمين، التي تعاني من بعض الثغرات على مستوى الإنسجام الداخلي، والتناغم العقلاني بين أجزاء النظرية، كما أذكر مقولة (فقه النظرية)التي طرحها الشهيد محمد باقر الصدر شاهدا على عقلانية الفقه الاسلامي، أي إنه قائم على أسس أولية معقولة، وله أهداف محددة، كما أن هناك إنسجاما وتناغما بين أجزائه وأبعاضه.
ج ـ ولا يقف الأمر عند حدود العقلانية، بل يتعداه الى شرط المعاصرة، أي أن المطلوب أن يقدم مذهب اهل البيت(عليهم السلام) بصورة عصرية، تناسب العصر وتتلاءم معه، تتكيف مع ظواهره ومعارفه وأحداثه، لا تستسلم له بل تعمل على إصلاحه، لكنها لا تتجاوزه أو تنكره.
ومن شرط المعاصرة تاتي اللغة المعاصرة، ويأتي تعريف الشباب بلغتهم التي يعشقونها بهذا المذهب الاسلامي الأصيل، أن التشيع بحاجة اليوم الى لغة عصرية، وليس اليوم فقط، بل على الدوام.
دـ ومن داخل هموم العصر تبرز الحاجة لأن يعرض الفكر الإمامي بلغة الحوار والتعددية المقبولة، لا يمكن بعد اليوم أن يكون التشيع لغة الخصام والنفي والإقصاء والتحقير والتقزيم للآخر، فمذهب أهل البيت(عليهم السلام) اليوم قد يكون أقدر من أى زمان مضى، لهذا لا ينبغي أن يخاف على نفسه من التواصل مع الآخر، ومد جسور الحوار الجاد معه، لهذا نحن نؤمن بعرض التشيع الى جانب سائر المذاهب عند المسلمين دون حاجة الى الغائها والتعامل مع وكأنها غير موجودة.
وهذا الأمر يخلق ثقافة تدعو الى تقريب حقيقي بين المذاهب، والتعالي عن اساليب النبذ السافر التي تظهر باشكال متعددة، بعضها لم يعد يحتمل، وعبر هذا السبيل يمكن الحصول على إعتراف الأطراف الأخرى وودها وأخوتها، أن كل حواجزالعلاقة يفترض بترها، ليس بترا شكلانيا، بل بتر معرفي حقيقي ليشق مذهب أهل البيت(عليهم السلام) طريقه في ساحات الحياة اليوم، لا ليكون خطابا خاصاداخليا لا يحيا خارج مساحته.
لقد إستطاعت المذاهب الاربعة أن تسدل الستار على تاريخ من الخصام بينها شديد، وها هي اليوم تتلف الى حدود بعيدة،ولا ينبذ أحدها الآخر ضمن الحد الأدنى لذلك على الأقل، وهذا ما نريده لمذهب أهل البيت(عليهم السلام)، أن تنتهي حالة الخصام،فيعاد إنتاج المعرفة واللغة والخطاب على ضوء مرحلة جديدة، فمن يقرأ تاريخ صراع المذاهب الأربعة فيما مضى من زمن لا يصدق أن هذه المذاهب قد تجاوزت، سيما بعد القرن الثامن الهجري، كل أشكال الخصام التي كانت تحياها، وهي بحق منقبة، نأمل أن تتسع لينضم إليها المذهب الجعفري، فتذهب المخاوف الموهومة منه، وتتلف القلوب وتتواصل.
ألا يمكن أن نختلف ويصر كل منا على رأيه دون أن نحمل في قلوبنا ضغينة على بعضنا؟! لماذا تتشابك لغة عرض المذهب الإمامي بمظاهر جلد الذات أو الغضب من الآخر، ولا نستطيع التمييز بين أجيال الماضي وأجيال الحاضر، أو بين أجيال الحاضر نفسها أيضا؟! نحن نحافظ على إعتقادنا ونختلف مع غيرنا دون أن نحقد عليه أو نحمله وزر الماضين أو..اللهم إلا من ظلم.
من هنا كانت الحاجة، تعريف هادئ وأمين وعقلاني ومعاصر بالمذهب الإسلامي لأهل البيت(عليهم السلام) ، مع جرأة في نقد الذات،فإن نقدها قمة الفضيلة، مع حوار هادئ مع الآخر لا نحقد فيه عليه، ونسعى أن لا نبخسه حقه فيه، إن هذا النوع من الخطاب هو البديل عن بعض الأشكال التي يراد لها في الأوساط الإسلامية أن تطغى وتحكم، موجات غاضبة من السلفية القاتلة، ورغبة جامحة في تكفير الآخر.
3ـ هذا هو تصورنا لخدمة مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، ونحن نؤمن بأن هذا السبيل هو الأفضل في عصرنا على الأقل لخدمة الدين وأبنائه، ونعرف أن فريقا يختلف معنا تمام الإختلاف في هذا الأمر، ونحن نحترم هواجسه ونقدر مخاوفه، إنه يعتبر آمثلا إن النقد الداخلي معناه فرط عقد المنظومة الفكرية الشيعية، وتحطيم لهيبتها وبنيتها، لذا يتوجس من النقد حتى لوإقتنع ببعض اشكاله، داعيا الى إرجاء ذلك الى مرحلة أخرى لا نعرف متى تأتي؟ كما أنه يخشى من العقلانية، لأنها تطيح تدريجا من وجهة نظره بالبناء التعبدي للدين، ويوفر نفوذ مقولات سنية كمقاصد الشريعة والقياس والاستصلاح و..، كما يرفض المعاصرة بشدة ويراها مجرد شعار لتذويب الدين تحت ستارحاجات الزمن وهكذا..
إننا نقدر هذه الهواجس ونعيشها أيضا، لكننا في الوقت عينه غير قادرين على الإستسلام لها، لأن رؤيتنا للموضوع تقوم على أن القيام على هذه الهواجس سينهي أمر الدين على المدى البعيد، وهذه هي الكنيسة عاشت الهواجس عينها، ونظرت المقولات ذاتها ولم تستجب لقرون، وظلت صامدة، لكن الذي حصل انها إنهارت فجاة، أشبه شي بالرسم البياني الذي وضعه توينبي لتاريخ الحضارات، أن الأمر أعقد مما نتصور، والتفكير فيه أحوج من مجرد معالجة أزمة في هذه القرية أوتلك، بل يحتاج الى عقول مشرفة مطلة على مختلف جوانب الأمور، كي تأخذ بالحسبان توازنات المصالح والمفاسد، فتضحي بالقليل لصالح الكثير، حتى لو كان الكثير لا يأتي إلا بعد زمن.
4ـ في عصر تتنامى فيه التيارات الطائفية بصورة غريبة، كما وعدنا بذلك هنتنغتون مؤخرا ، في حديثه حول المد الطائفي في الشرق الأوسط، أن ما يحصل في العراق اليوم وما يحصل في لبنان لهو نذير شؤم يستصرخ علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يتحملوا مسؤولياتهم، ليس في لقاءأت شكلية تلفزيونية إستعراضية، نحترمها لكننا لا نرى فيها عظيم الفائدة، بل في السعي الدؤوب لإعادة بناء منظومات التربية والتعليم في المؤسسات الدينية والمعاهد والحوزات والجامعات الإسلامية عند الفرق الإسلامية كافة، فلا يصح أن نضع نظما للتربية الدينية لا تنتج سوى التكفير والبغض والحقد المتبادل، ثم نتداعى عند وقوع الكوارث إلى عقد جلسات وئام، وعلى العلماءأن يحملوا هم الإسلام، ويتعالوا عن خطاب الطائفية البغيض الذي لا يستفيد منه سوى الآخر.
إذا كان الآخر بمؤامراته يفعل ذلك كله، فيجب أن لا نعفي الذات، بل نعترف بأن هذا الآخر قد إستغل ثغرات فينا، لكي ينفذ منها، وأهم هذه الثغرات ثغرة الطائفية الحاقدة، التي لا تبقي ولا تذر.
هذه هي رسالتنا لنشر زهور التواصل والتعارف، وردم الهوة إلى الأبد بين إخوة في اللّه متحابين، لكي لا نسمح جميعا للسلفية الطائفية بأشكالها وتمظهراتها أن تنجح في إيجاد شرخ أو إحداث فتنة، وبذلك نأمل أن نكون مصداقا لقوله تعالى:
(واذكروا نعمة اللّه عليكم اذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا...) [آل عمران: 103].
الشيخ : حيدر حب اللّه