مؤمن14 عضو نشيط
تاريخ التسجيل : 25/08/2010 عدد المساهمات : 72 العمر : 63
| موضوع: شرح الخطبة الفدكية / فدك ذريعة لبيان الحقائق ( المحاضرة الرابعة )هم للغاية الإثنين 30 أغسطس 2010, 03:47 | |
| بسم الله الرحمـٰن الرحيم هذا الذي بين أيديكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آية الله مصباح اليزديّ (دامت بركاته) ألقاها في مكتب سماحة وليّ أمر المسلمين بتاريخ 16 آب 2010م الموافق لليلة السادسة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزيد توجيهات سماحته من بصيرتنا وتكون نبراساً ينير لنا درب هدايتنا وسعادتنا.
فدك؛ ذريعة لبيان الحقائق قصّة فدك بتوفيق من الله تعالى نستهلّ البحث حول الخطبة المعروفة للسيّدة الزهراء (سلام الله عليها)؛ وبمناسبة تسمية هذه الخطبة بالخطبة الفدكيّة فإنّه من المناسب أن نقدّم بادئ ذي بدء شرحاً موجزاً عن قصّة «فدك»، إذ أنّ أغلب شباننا ليس لديهم الاطّلاع الكافي على هذه القضيّة. فدك هي اسم بلدة تقع إلى الشمال من المدينة المنوّرة قرب حصون خيبر وتفصلها عن المدينة حوالي مائة كيلومتر. سكّان هذه البلدة وتلك الحصون كانوا طوائف من اليهود. وفيما يتعلّق بنزوح اليهود إلى أرض الحجاز وتوطّنهم في المدينة فهذا يعود إلى قرون قبل ظهور الإسلام. لقد سمع علماء اليهود من أنبيائهم (سلام الله عليهم أجمعين) وقرأوا في كتبهم أنّه سيُبعث في آخر الزمان نبيّ يصدّق مَن سبقه من الأنبياء، وسينتشر دينه في العالم بأسره. فهاجر اليهود إلى أرض الحجاز على أمل إدراك نبيّ آخر الزمان والإيمان به، وتوطّنوا في أطراف المدينة؛ إذ كانوا يعلمون أنّ عاصمة ذلك النبيّ الموعود ستكون المدينة. كان اليهود في ضواحي المدينة يشكّلون ثلاث طوائف (وهم بنو قريظة، وبنو قينقاع، وبنو النضير) وكانوا يمتازون بخصوصيّات أوّلها أنّهم كانوا حالهم حال غيرهم من اليهودـ شديدي الشغف بالمال ويتمتّعون بعقليّة اقتصاديّة. وثانيها التفکر للمستقبل البعيد والتأمل في العواقب. فعندما جاءوا المدينة سعوا إلى تشخيص الأراضي التي تتمتّع بالخصوبة والأماكن الاستراتيجيّة وبناء القلاع الحصينة. أمّا ميزتهم الثالثة فهي أنّهم كانوا أهل علم ومعرفة ويمتازون بحضارة تفوق حضارة عرب الجزيرة. وقد نال اليهود بما يمتلكونه من خصوصيّات مكانة مرموقة بين العرب. وبعد هجرة النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) إلى المدينة ونجاحه عمليّاً في تأسيس الدولة الإسلاميّة، وقّع النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله) مع مختلف طوائف اليهود معاهدة تقضي بعدم تعرّض اليهود للمسلمين أو مدّ يد العون لأعدائهم؛ لكنّ أيّاً من تلك الطوائف لم تف بعهدها وراح اليهود يبنون علاقات سرّية مع مشركي مكّة من جانب، وفيما بعد مع منافقي المدينة من جانب آخر بل وتآمروا في التخطيط لشنّ حرب على نبيّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله). وقد عاهدهم المنافقون بأنّكم إن اجتحتم المدينة فإنّنا سنكون ظهيراً لكم لأنّ عددنا يقترب من الألفين. يشير الباري تعالى إلى هدف المنافقين هذا في سورة «المنافقون» في قوله: «يَقُولُونَ لَئِنْ رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ»1؛ فهم يزعمون بأنّهم أعزّاء، والمسلمون ليسوا إلاّ مشرّدين من مكّة أذلاّء وإنّنا سوف نطردهم من المدينة. وحينما وصل خبرهم هذا إلى مسامع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تجهّز لقتالهم فنشبت في نهاية المطاف حروب كانت إحداها واقعة خيبر. في هذه الواقعة تمّ فتح حصون خيبر، التي كانت من أهمّ حصون اليهود الاستراتيجيّة: «وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ»2، على يد أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) المقتدرة. فبلغ خبر فتح خيبر أهالي فدك، ومن أجل حقن دمائهم ووقاية أنفسهم ممّا نزل بأهل خيبر من البلاء اقترحوا على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الصلح، وعرض كبراء فدك على النبيّ إعطاءه أراضيهم وأموالهم في مقابل تركهم أحياء. فقبِل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بعرضهم وقام كلّ واحد منهم فأخذ لنفسه من أمواله بمقدار بعير وسلّم الباقي للنبيّ (صلّى الله عليه وآله). يشير القرآن الكريم في أوّل سورة الحشر إلى تلك القصّة بالقول: «وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلـٰكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»3؛ ومضمون هذه الآية هو أنّ هذه الأرض التي استوليتَ عليها من دون استخدام قوّة عسكريّة والتي وهبها أهاليها بأنفسهم للنبي (صلّى الله عليه وآله)، تختلف عن أموال الغنائم التي يحصل عليها المسلمون في الحرب. ففي العادة عندما ينتصر جند الإسلام في الحرب على الكفّار ويحصلون على الغنائم فإنّ خمس تلك الغنائم يكون من حصّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله): «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ»4. أمّا الأموال التي تقدَّم خصيصاً للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) فهي كلّها تعود له. هناك في الفقه بحث حول أقسام أموال غنائم الحرب. فواحد من تلك الأقسام هو ذلك الذي تشير إليه الآية السادسة من سورة الحشر حيث تقول: «ما أعطا الله من أموالهم لرسوله ممّا لم تستخدموا في الحصول عليه لا خيلاً ولا جمالاً». فليس سوى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من له صلاحيّة التصرّف في تلك الأموال وما من أحد غيره على الإطلاق له حقّ فيها. فأهالي فدك هم الذين سلّموا أراضيهم للنبيّ كي يحقنوا دماءهم. وطبقاً لما تنقله بعض الروايات فإنّه عندما أصبحت تلك الأراضي ملكاً للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) نزلت هذه الآية: «وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ»5؛ فصحيح أنّك حرّ في التصرّف في تلك الأموال كيف تشاء؛ لكنّه «لذوي القربى» حقّ فيها. أي لقد صدر الأمر في الحقيقة بأنّه: صحيح أنّ لك كامل الحرّية في التصرّف في تلك الأموال، لكن عليك أن تعطي هذا القسم من الأراضي لذوي القربى. وقد جاء في الخبر أنّ المراد من «ذا القربى» هو فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)6. وتنفيذاً للأمر الوارد في الآية الشريفة فقد قام النبيّ (صلّى الله عليه وآله) باعطاء فدك للزهراء (عليها السلام) وعيّن في حياته متولّياً عليها ليدير شؤونها. فكان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يأخذ من ريعها ما يعادل قوته وقوت الزهراء لسنة ثمّ يوزّع الباقي بين الفقراء بعنوان هدية فاطمة الزهراء (سلام الله عليها). وما دام النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على قيد الحياة كانت الاُمور تجري على هذا المنوال. لكن بعدما رحل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الي ربّه وفي غضون بضعة أيّام لا غير جرت على الأمّة الإسلاميّة من التحوّلات العظيمة ما يصعب تصديقه للغاية. كلّ تلك القصص التي نسمعها كلّ يوم وكلّ ليلة فتُدمَى لها قلوبنا كانت قد جرت أحداثها في تلك الأيّام القلائل. فبعد عشرة أيّام من وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أخرج خليفة ذلك الزمان وكيلَ الزهراء (سلام الله عليها) من فدك وعيّن غيره مكانه، فصادر بذلك ريع تلك الأراضي الذي قيل إنّه كان يصل حتّى إلى 120 ألف دينار، محتجّاً بأنّ تلك الأموال كانت توزَّع في حياة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على الفقراء؛ ونحن أيضاً نأخذها ونوزّعها على الفقراء، والحال أنّ فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) كانت تنفق على الفقراء من ملكها الخاصّ ولم يكن المال متعلّقاً بالدولة. ولم تمض على تلك الأحداث غير شهرين وبضعة أيّام حتّى رحلت الزهراء (سلام الله عليها) عن هذه الدنيا. في هذه الفترة بالتحديد كان للزهراء (عليها السلام) بضع خطب وحوارات كانت إحداها هذه الخطبة المشهورة التي تُعدّ من مفاخر الإسلام ومن الوثائق التي يظلّ صداها يدوّي إلى يوم القيامة معلنة عن حقّانية الإسلام، والتشيّع، وأهل بيت الرسول (صلّى الله عليه وآله). ومن حُسن الحظّ أنّ هذه الخطبة بقيت، بهمم الشيعة، محفوظة إلى يوم الناس هذا بل وثُبّتت أيضاً حتّى في كتب المخالفين.
ما نصنع بفدك؟! يتصوّر البعض أنّ الذي آلم الزهراء (عليها السلام) إلى أبعد الحدود كان غصبهم لأموالها! بل ويُذكَر في بعض المراثي أحياناً أنّها (سلام الله عليها) قالت: «لقد سلبتم قوت عيالي!». فإن قلنا إنّ هذا الكلام هو من أعظم ألوان الظلم الذي مارسناه نحن الشيعة في حقّ أهل البيت (عليهم السلام) لم نكن قد بالغنا. فكيف يمكن لمَن لا تساوي كنوز الدنيا كلّها في أعينهم أكثر من كومة رماد أن يغتمّوا لفقد مال دنيويّ؟! فهذا أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) يقول في نهج البلاغة: «وما أصنع بفدك وغير فدك»7؟! أيكون حقيقةًـ كلّ ذلك البكاء، والأنين، والتظلّم من أجل مال الدنيا؟! إنّ تصوّراً كهذا لا يعدوا كونه تصوّراً ساذجاً في غير محلّه، وليس هو من العقل في شيء. فحقيقة الأمر أنّ هذه المسألة كانت ذريعة اتّخذتها سيّدتنا الزهراء (سلام الله عليها) لتعلن عن حقائق أرادت لها أن تظلّ على درجة كبيرة من الوضوح والجلاء إلى يوم القيامة فلا يتمكّن أحد من إخفائها والتستّر عليها. لم يكن من أحد، بما فيهم شخص أمير المؤمنين (عليه السلام)، باستطاعته أن يبيّن تلك الحقائق بمثل تلك الصراحة غير السيّدة الزهراء (سلام الله عليها)! فأمير المؤمنين (عليه السلام) كان هو نفسه طرفاً في النزاع مع الخلفاء على قضيّة خلافة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ ومن أجل ذلك فإنّه ما كان يتفوّه بكلمة حتّى يقولوا له: «إنّك تريد الكلام لمصلحتك!». لكنّ فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) كانت قد أعلنت عن تلك الحقائق باُسلوب لا يجرؤ أحد اليوم على التكلّم عن هؤلاء الأشخاص بمثله. في تلك الظروف كان هذا العمل الوحيد الذي تستطيع الزهراء (سلام الله عليها) القيام به وبالإفادة من فرصة الأيّام القليلة تلك كانت (عليها السلام) قد أسدت إلى الإسلام خدمة تعادل خدمة أعوام وقرون متمادية.
ذريعة لبيان الحقائق فيما يخصّ اُسلوب الحوار الذي جرى بين السيّدة الزهراء (عليها السلام) من جانب وخليفة ذلك الزمن والمتصدّين لقضيّة الخلافة من جانب آخر هناك نقاط تقع أحياناً محطّ غفلة أو قلّة إنصاف، كما ويطرحها البعض أيضاً بعنوان الشبهة، وهي أنّ هذه المزرعة في الواقع كانت قد وُهبت من قبل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) خصّيصاً للزهراء (سلام الله عليها)؛ لكنّ مسألة الإرث قد اُقحمت في القضيّة بعد ذلك حيث طالبته الزهراء (عليها السلام) بإرث أبيها، فبادرها بالجواب قائلاً: إنّ النبيّ قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث!». هذا الحديث الذي نقله الخليفة لفاطمة (سلام الله عليها) هو من الموارد التي يؤخذ فيها بعض الكلام ويُسكَت عن البعض الآخر الذي يتضمّن القرينة، ممّا يؤدّي إلى الالتباس في فهم المعنى. نحن أيضاً لدينا روايات تحمل هذا المضمون نقلها أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث درهماً ولا ديناراً» أو أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قال بنفسه في مقام الحثّ على طلب العلم: «إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم، فمَن أخذ منه أخذ بحظّ وافر»8؛ والغاية منه هو أنّ عليكم أن تقدروا العلم حقّ قدره فهو ميراث الأنبياء. لكن هناك فرقاً بين: ما الذي تركه الأنبياء للناس من ميراث، وبين: ما الذي تركه الأنبياء من أموالهم كإرث لوارثيهم. فأحياناً ننظر إلى الأنبياء «بما هم أنبياء»، أو كما يُصطلح عليهـ من زاوية شخصيّاتهم الحقوقيّة، ففي هذه الحالة يتمّ طرح الأنبياء في مقابل الاُمّة. هاهنا يمكننا التساؤل: ما الذي تركه النبيّ للاُمّة من إرث؟ حيث يكون الجواب: إنّ النبيّ لا يورّث اُمّته مالاً؛ بل يورّثها العلم، والمعرفة، والدين. لكنّه عندما يُطرح شخص النبيّ بما هو محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله)، فحينئذ يكون السؤال: ما الذي تركه لامرأته وأولاده من الإرث؟ فهاتان مسألتان منفصلتان. فالنبيّ بما هو نبيّ لا يترك لاُمّته مالاً، وهذا صحيح؛ لكنّ ذلك لا يتنافى مع كونه فرداً من أفراد الاُمّة ومتّبعاً لأحكام الإسلام. فنبيّ الإسلام، من حيث إنّ عليه العمل بأحكام الإسلام وله حقوق أيضاً طبقاً للضوابط الإسلاميّة، فهو كسائر المسلمين. فيجب عليه حاله حال باقي المسلمينـ أن يصلّي، ويصوم، ويراعي حلال الله وحرامه، وإنّ قاعدة «أَوْفُوا بِالعُقُودِ»9 تشمله أيضاً، وعليه أن يتّصف بالوفاء في المعاملة، و... الخ. وهناك في القرآن الكريم آيات صريحة حول توريث الأنبياء (عليهم السلام) لأبناءهم؛ كما في قوله: «وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ»10، وكما في دعاء النبيّ زكريّا (عليه السلام) لله أن يرزقه ولداً من أجل أن يرثه: «يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ»11. ولا يُراد من هذه الآيات أنّهم تركوا ميراثاً لأنّهم رسل وأنبياء؛ بل المقصود منها أنّه بما أنّهم مسلمون ومنصاعون لأحكام الله تعالى فإنّهم يرثون موَرِّثيهم، ويورّثون وارثيهم. ولا اُريد من هذا الكلام إلاّ التنويه إلى هذه النقطة وهي أنّ تقطيع الكلام يبعث أحياناً على تغيير معناه الأمر الذي يؤدّي إلى عدم فهم القصد الأساسيّ منه.
تدبيرٌ منقطع النظير قبل الولوج في البحث لابدّ من الالتفات إلى هذه النقاط وهي أنّ نزاع السيّدة فاطمة (سلام الله عليها) مع المدّعين لخلافة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يكن نزاعاً على المال والإرث. فلم يَعدُ الأمر ذريعة لقول بعض الحقائق وتثبيتها في صفحات التاريخ، كما أنّ سلوك السيّدة الزهراء (عليها السلام) بعد تلك الأحداث كان بكيفيّة من شأنها أن تؤمّن هذا الهدف المرجوّ. وعليّ أن أقول هنا أيضاً إنّ وصيّة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) القاضية بعدم رضاها بحضور هؤلاء في جنازتها الشريفة لم تكن من دافع الحقد والضغينة، والعياذ بالله؛ بل لقد كانت هذه الخطوة من أعظم السياسات التي خطّت بخطّ البطلان على مزاعمهم. فلقد أرادت (عليها السلام) أن تثبّت منتهى حنقها وغضبها عليهم كي يكونوا المصداق الأجلى لحديث النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله): «إنّ الله عزّ وجلّ يغضب بغضب فاطمة»12. فالغاية من دفن جسدها الشريف سرّاً وعدم الإذن للأغيار بالمشاركة في تشييع جنازتها كانت من أجل أن تُثبّت هذه الحقيقة في التاريخ وليعلم الجميع أنّها لم ترضَ عن هؤلاء قطّ. هذه المسألة لم تكن على خلفيّة الحقد والضغينة؛ فأصحاب هذا البيت الطاهر كانوا على جانب من الرأفة والرحمة بحيث إنّهم لو شعروا ببصيص أمل، مهما كان ضئيلاً، بإمكانيّة هداية ألدّ وأعتى أعدائهم، ما كانوا ليألوا جهداً في هدايتهم؛ لكن لو لم تفعل السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) ما فعلت لما انجلت الغبرة، ولما انكشفت الحقيقة، ولما ذقنا أنا وأنتم اليوم طعم الإسلام والتشيّع. فبفضل تدبير السيّدة فاطمة (سلام الله عليها) هذا عرف الملايين من البشر حقيقة الإسلام. إنّني لأقطع وأجزم على أنّه لو كان ثمّة بصيص أمل في هداية هؤلاء وتوبتهم عبر المشاركة في جنازة الزهراء (عليها السلام) لأصرّت (سلام الله عليها) إصراراً بليغاً على مشاركتهم؛ لكنّها كانت على علم بأنّ الذين خالفوا أمير المؤمنين (عليه السلام) علناً لن يكونوا على استعداد لقبول الحقّ مهما كان الثمن. ولهذا فقد أسّست (عليها السلام) لهذا التدبير بُغية أن تَفهَم الأجيال القادمة بأنّه قد تولّد في الاُمّة الإسلاميّة تيّار راح يسير على عكس المسيرة الحقيقيّة للإسلام وخلافاً لمقاصد النبيّ الكريم (صلّى الله عليه وآله) وتوجيهاته، كي يتمكّن البشر من معرفة الحقّ إذا رغبوا في اتّباعه.
اللهمّ لا تحرمنا شفاعة الزهراء (عليها السلام).
--------------------------------------------------------------------------------
1. سورة «المنافقون»، الآية 8 .
2. سورة الحشر، الآية 2.
3. سورة الحشر، الآية 6.
4. سورة الأنفال، الآية 41.
5. سورة الإسراء، الآية 26.
6. بحار الأنوار، ج48، ص157.
7. نهج البلاغة، الرسالة 45.
8. بحار الأنوار، ج1، ص164.
9. سورة المائدة، الآية 1.
10. سورة النمل، الآية 16.
11. سورة مريم، الآية 6.
12. عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، ج2، ص26.
| |
|