إدريس هاني
Monday, October 25, 2010
ويستمر حديثنا عن التقريب والوحدة والتعايش والتضامن؛ وكلها مطالب مشروعة وضرورية شكلت ولا زالت تشكل ، ليس خطرا على العدو الخارجي الذي أراد لنا أن نغرق في سياسات طائفية لن نقوم منها أبدا ، فحسب، بل باتت رسالة التقريب هي ما يقض مضاجع شرذمة التكفير ويقلق بالها ، لأنها تدرك أن زمان انقراض أطروحاتها الخاطئة دنى فتدلّى، وهي تخشى أن يلتئم الجرح و يلمّ الشعث ويتضامن الشيعة والسنة بأغلبيتهم الأشعرية والصوفية وحتى السلفيات غير الغالية وغير التكفيرية في العالم الإسلام ، لأن منابعها تنضب تباعا والظلامية تنفضح يوما بعد يوم ، والجيل الجديد بدأ يتمرّد على الثقافة التكفيرية في عقر دارها و مراكزها، حتى باتوا أيتاما في بلدانهم. فلم يعد من مبرر لوجودهم، لأنهم من الأصل وجدوا بالخطأ وفي ظرفية تاريخية استثنائية جدّا. ومن المؤسف أن مجموعة الغلاة والتكفيريين سوف ينقرضون لا محالة إن هم لم يغيروا من ثقافتهم التكفيرية ويخففوا بعض الشيء من نزعتهم الإرهابية ويتأدبوا بآداب الإسلام السمحة وقيم العصر العقلانية ، وأن تحدث صفوة الإصلاح ثورة من داخلهم كما بتنا نلاحظ أن منهم من بدأ يسلك طريق التنوير والاعتدال على قلّتهم وضعف سلطانهم ، وهي دعوة نتمنّاها للمسلمين جميعا سنة وشيعة لا فرق ، فما ننصح به هؤلاء ننصح به أولئك ؛ وإلاّ فمصيرهم الانقراض. وكان أحرى بهؤلاء أن يلهوا أنفسهم ويشغلوها بإصلاح أوضاع فكرهم الداخلية وينتقدوا تجاربهم الخاصة وأن ينظفوا بيتهم الداخلي قبل أن يتطوّعوا لممارسة الإصلاح في مذاهب غيرهم التي يجهلون روحها وجوهرها ويخلطون فيها أخماس بأسداس. فمثل تلك العملية هي مسؤولية أصحاب المذاهب نفسها لا الأغراب. وليس في وسع أحد إلا أن يبرر حجية مذهبه في الإسلام لا أن ينصب نفسه مدّعيا وقاضيا في الوقت نفسه وأن يتساءل فينتظر الجواب من أهل المذهب الآخر. وتلك هي مهزلة الموضوعية عند الكثير من التكفيريين الذي اختاروا تمثل لغة الموضوعية ليثبتوا المزاعم نفسها. إننا ننطلق من أن الخلاف الأول حول الإمامة هو خلاف حقيقي لا يمكن التعاطي معه بلغة النّط والقفز فوق النصوص، والتبرير بأثر رجعي تمسكا بقيم لم تكن حاكمة ولا حاضرة إلاّ عند المتأخرين، مثل الشورى التي لم يعرفها تاريخ الإسلام السياسي ولا الديمقراطية التي لا زالوا يكفر بها الكثير من هؤلاء. علما أن الشورى عانت أزمة حقيقية في تاريخنا الإسلامي بسبب الذين حاجوا بها أصحاب الإمامة وليس سببها الشيعة الذين لم يحكموا وإن فعلوا حكموا بالطريقة نفسها التي ظلت سائدة وغالبة في العالم الإسلامي ووفق القيم والمعايير السياسية للتجربة الإسلامية العامة. ومن هنا كان لا بد أن نوفر النقاش الموضوعي حول ذلك إلى مقامه الذي ليس مقامنا الآن. إن مقامنا هو واجب التقارب بين المسلمين تقويضا لفتنة التكفيريين الذين يشعرون اليوم بالإفلاس كلّما عاد موضوع التقريب والوحدة إلى الواجهة.
***
نتحدث عن الوحدة والتقريب ولا نجعل من التعايش والتضامن بدلا عنهما لأننا نعتقد أن ما يجمع ويوحد بين فرقاء المسلمين هو أكبر من أن يجعلنا نتحدث عن مجرد تعايش وتضامن وهو مما تسلك عليه التعدديات بين المسلمين وغيرهم. فالذين يجمعهم الله لا تفرقهم عصبيات مذهبية. والذين يجمعهم الرسول والقرآن وأصول الإسلام الكبرى سيكون من العيب أن يتحدثوا عن تضامن وتعايش لا عن تقارب وتوحد. ولذا فإن الوحدويين يتحدثون عن الاقتصاد في الخلاف بينما يسعى التكفيريون إلى تضخيمه حتى ييئّسوا المسلمين من الوحدة والتقريب. وهنا نزيد تذكيرا أننا لا نسعى في هذه المقالات أن نحاجج دفاعا عن مذهب أو مدرسة، فلذلك مقام آخر وموضوع مختلف فافهم رحمك الله ولا تغالط أو تستعجل وتنط بين موضوع وآخر. إنّ حديثنا هنا يتعلق بالوحدة والتقريب كضرورة يوجبها الشارع، لا كمنّة من جهة على أخرى. فزمان إثبات هذا المعتقد أو ذاك فسيح وممتد ولن يهرب منّا ؛ وعندها لا تسامح في الحجة بل المدار هو الدليل وليس التبرير الذي يرد بتبرير أو ليّ لعنق دليل يمكن ردّه بليّ نظير أو انتقاء في المصادر يمكن ردّه بانتقاء أتقن أو سكوت عن أدلّة تردّ باستحضارها أو ولع باستحضار مكتوب الآخر من دون دراية ، للتباري مع أقران صاحب المذهب نفسه أكثر من أن يثير سوى الشفقة عند أصحاب المذهب الآخر. ولك أن تطارح وتناقش وتدافع عن رأيك واختلافك في ظل واقع تقريبي وتعايشي لا إشكال في ذلك ولا حدود لذلك. وحدها المجتمعات المتوحشة، لا تميّز بين حقّ الاختلاف وضرورات التعايش. بين النقد واللعن .. بين الدليل والتهريج.. لكن مشكلة البعض يكمن في خلط الموضوعات حيث الموضوعية والمعرفة ليست مطلبا جادّا لديه. ليس مطلوبا من السنّي أن يتنازل عن سنيته فهذه لم تكن دعوى لعقلاء الشيعة في كل محاولاتهم التقريبية. وكذلك الشيعي لن يتخلّى عن آرائه لأنه يملك عليها ما ينهض حجّة لا تردّ بتهريج طائفي وسياحة صيفية في مختلف المتون من دون بوصلة ومعالم في الطريق. فهذا ليس في مقدور أحد . كما أن هذا إرث ورثناه من تاريخ لم نصنعه وإنما نحن صنيعته . لكن لماذا لا يخشى الشيعة على أبنائهم من الوحدة مع السنة؟! بينما نجد ضوضاء التكفيريين لا يفتأ ينبّه إلى مخاطر التقريب (لا مساس) مع الشيعة.. هل ثمة خوف وهشاشة يشكوا منهما التكفيريون وانعدام الثقة في نفوسهم؟ أم لأنهم يعتبرون كل تقارب بين المسلمين سنة وشيعة هو تقويض لثقافة التكفير وتعجيل بانقراض دعوى أقلية تكفيرية معروفة ؟! لم يعش العالم الإسلامي أجواء تهريجية مثل الذي نعيشه اليوم في كل تاريخه. هل هو وفاء للتاريخ أم فراغ حضاري نابع من عجزنا عن بناء الدولة القوية والمجتمع المدني وتكريس ثقافة التسامح والحوار وحقوق الإنسان؟! إن المطلوب هنا لا أن ترجح رأيا، بل أن تتعايش وتتضامن لأنك تعيش تحت طائلة قدر جغرافي ومصير تاريخي واحد. كن ابن من شئت وما شئت واكتسب فهما وأدبا. فالمطلوب أن تتمرّس هذه العقول المتوحشة على احترام الآخر وتغيير ثقافتها لتلائم عصر التسامح وحقوق الإنسان ولغة التواصل. المتوحشون وحدهم يضيقون بالآخر وتهيمن عليهم غريزة الدهشة والنفور والفزع منه. المجتمعات الراقية شقت طريقها نحو الاستقرار والسلم المجتمعي وقوة الدولة وعمق الثقافة يوم تعلمت أن لا حدود للاختلاف لكن ثمة ضرورات للتضامن. نحن اليوم ندفع ضريبة التربية على التخلف والتزمت والتعصب والتوحش وتمجيد الذّات وتبخيس الآخر ، وهي من موروث أزمنة الانحطاط. أن نختلف داخل الأوطان لا يعني أن نختلف حول الأوطان. والاختلاف حينما يدبر على أسس تواصلية وقيم الحوار واحترام الآخر ضمن ثوابت الأمة المعقولة والمشروعة والأساسية ، يصبح قاعدة صلبة لأوطان حرّة وحصينة ، من دون مزايدات تافهة ولا ادعاءات مغرضة. وصنّاع الأوطان الحصينة والقوية والحرّة لا يمكن أن يكونوا تكفيريين ومتعصبين. وهذا هو قدر مجتمعاتنا الإسلامية الآخذة في التجدد رغم أصوات الظلام وتشغيبها التي تحاول أن تجعل من نفسها ناطقا باسم الأمة ، ومنافحا عن مطالبها ، والتي لا تعني في حقيقتها أكثر من تحقيق قدر من التنمية والتقدم والسلم المجتمعي القائم على التربية الحضارية والثقافة المدنية. فالخائفون من الاختلاف والتعددية والسلم المجتمعي هم سلالة من بقايا عصور الانحطاط.
التقريب ضرورة لا منّة
الوحدة، التقريب ، التضامن ، الشراكة... مفردات لها أهميتها في حاضرنا الموسوم بالتشظي والتشرذم والعصبية. ومفاهيم لها رواج كبير في زمن كأنه بات قدرنا أن نحياه على إيقاع التفريق ونبض التجزئة. إن المغلقين بين أسوار مدارسهم ومذاهبهم المحروسة يرون الآخر بمثابة الجحيم. حتى لو شاركهم هذا الأخير حقيقة التوحيد وسلّم بالمرسل والرسول والرسالة. ماذا عساهم يريدون بعد كل هذا؟! لعل أخطر مفارقة في المقام أننا نبحث ـ ودائما كنا ملزمين أن نبحث ـ عن مربعات للشراكة والتقارب في قيم أخرى قد تتنزل إلى ما هو أدنى من الأصول الثلاثة التي بها قام الاعتقاد الإسلامي وعلى أساسها يجب أن تنهض الوحدة والتقريب. الوحدة ليست في تفاصيل الاجتهادات الكلامية ، بل الوحدة قائمة بالجملة. ربما هنا يصح القول أن الشيطان يكمن في التفاصيل. فالعلماء يدركون أن التوافق يقوم بالجملة فإذا ما رمنا التفصيل اختلفنا. لا نطلب الوحدة في هل إن الصفات هي عين الذات أم أنها مستقلة عنها.. هل الكلام قديم أم محدث.. هل هو صادر عن الذات أم نفسي .. هذه خلافات في الجملة مشروعة على خلفية وجوب الاجتهاد في الاعتقاد والتنزيه. لا ندري أي قيمة من شأنها أن توحد المسلمين غير ما يشتركون فيه على أساس الثالوث الأصولي(المرسل والرسول والرسالة)، الذي هو مناط إسلامية الاعتقاد. لكن ثمة من يرى أن المسلم كافر حتى لو نطق الشهادتين، طالما أنه يختلف في تفاصيل اعتقادية ما. أعتقد أن الدنو من بعضنا البعض يجعلنا نفهم الآخر أكثر ونتفهمه أكثر. نفهم الكثير عن الآخر ونتفهم حتى ما لم نستطع الاعتقاد به. هذا ما أسميه الاقتصاد في الخلاف. إننا نختلف أكثر مما هو واقع بالفعل. نختلف كثيرا لأننا لا ندرك طريقا أمثل لنتعارف أكثر. من المتيسر جدا أن ننفخ كثيرا في بالون الخلاف. غير أنه بالإمكان أن نخفف من ثقل هذا الخلاف لنوقفه عند حجمه الطبيعي. لقد لعبت السياسة دورا خطيرا في هذا التورم الطائفي. وإذا كان ذلك بالمعايير السياسية مبررا عصرئذ ، فإن السياسة اليوم ترى المصلحة في الوفاق والتسامح والتقارب والشراكة والوحدة. كان الصراع الطائفي بالأمس ينتج غالبا ومغلوبا . هذا ما نقصد بكونه كان مبررا . لكنه اليوم لا ينتج غالبا ولا مغلوبا. بل إنه صراع يجعلنا جميعا مغلوبين. فمن الممكن جدا أن تلعب السياسة دورا بارزا في لمّ الشعث والتخفيف من وطأة الخلاف. علينا إذن أن نكون سياسيين. لعل هذا هو ما جعل السيد شرف الدين الموسوي يؤكد يوما على هذا الدور السياسي ، حينما اعتبر أن السياسة التي فرقتنا وجب عليها اليوم أن توحّدنا! يجب أن ندفع بالأمة إلى ثقافة سياسية كبيرة تجعلها تدرك كم خسرت من كل هذا التّشظي غير المعقول. حينما تسود ثقافة الانزواء المذاهبي ومغالطات المذاهب المحروسة المغلقة على حقائقها، فإننا نكون أمام كبرى الأوهام المؤسسة للثقافة الطائفية البغيضة. الضرورة قاضية إذن بأن نؤسس لثقافة المذاهب المفتوحة لا المذاهب المغلقة. وثقافة الطوائف المتسامحة لا ثقافة الطوائف المنزوية. وثقافة المدارس المنفتحة لا المدارس المحروسة. وعليه فإن فرصتنا اليوم أكبر من أي زمن مضى لفهم هذه الحقيقة. وهو أن مجتمعنا الحديث أيا كانت سياسته وأيا كانت ثقافته ، يعيش على سبيل قيم التسامح والانفتاح وفكرة التعايش والسلم الأهلي. ليست الحرب أيا كان مداها إقليمية أو أهلية بالأمر الممكن اليوم. فالحروب الطائفية اليوم مستحيلة لسبب رئيسي هو أن منطق الحرب اليوم لا يؤدي إلى نتيجة بقدر ما يورث الأحقاد ويعمق الجروح ويعقد المشكلات. إن حربا أهلية تقوم على أسس طائفية معناه وجود حمام دم لا ينقطع أبدا. وهي على المستوى الإقليمي حرب بسوسية لن تفعل أكثر من أن تعمق جذور القابلية للاستعمار وتؤبد وجود الأجنبي واستمرار انعدام الثقة بين دول الجوار. أي مجنون أحمق يظن أن الحرب الطائفية اليوم ممكنة كما كانت في يوم مضى حيث كان السيف هو الوسيلة التي يتم بها قطع الرقاب وحيث الفتك لا يتحقق بقوة السيف أو قوة الأفراس أو حتى الفيلة، بل القوة تتحقق بمتغير آخر هو كفاءة المقاتل وقوة ضرباته. لك أن تتصور الأمر اليوم معكوسا. ثمة دول تملك من البارود ما تحول به العمران إلى خراب. لا أحد يملك اليوم أن يبيد أحدا ، لكن الحروب اليوم تتم بصورة أفتك ، بحيث لا وجود بعد أن تضع أوزارها إلى غالب أو مغلوب كما ذكرنا آنفا. المنتصر يجد نفسه أمام مهمة كبيرة ، هي كيف يعيد البناء بعد أن تم تدميره بالكامل. الحروب التي ننتصر فيها لا تعني أن المنتصر قادر على منع الخراب من الوصول الى مجاله. كل حرب تعيد الأمة إلى الوراء قرونا لا يمكنها تأمين طريق اللّحوق بالركب المتقدم. علينا إذن أن نكون سياسيين واستراتيجيين وتنمويين وحضاريين لندرك أي خراب ينجم عن مجرد التفكير في الحرب الطائفية.
كبوة العلماء
تزداد وتيرة التصعيد الطائفي حينما يصبح تدخل العلماء انفعاليا وعاطفيا مثل العوام أنفسهم. هذا يزيد الطين بلة. حدث ذلك بصورة كادت أن تكون مروعة نتيجة ما جرى ولا يزال في أرض العراق المحتلة. فحينما تغيب الحقائق ويصبح العلماء يستمدون معطياتهم من وسائل إعلامية لا زالت متهمة بالتحيز وغياب المهنية ، فإن ذلك يكون أخطر من أي أمر آخر. في هذا السياق المفعم بالفوضى فقد الكثير من العلماء صوابهم. وكان الانفعال سيد الموقف. حتى بعض الأعلام المعروفين بوسطيتهم وتسامحهم وحسهم التقريبي والوحدوي انهدوا في بؤرة تأجيج العواطف. إن العالم العربي فقد رشده خلال تلك الفترة، وإن استطاع بعض الفضلاء أن يواصلوا الصبر ويتخطوا هذه المحنة بروية ورباطة جأش. لقد لعب الإعلام دورا سلبيا في هذا الموضوع. كان لا بد أن يسيطر العلماء على الموقف ، وأن لا يدعوه ضحية لهذه الفوضى الخلاقة التي ساهم فيها الإعلام العربي بسذاجة أحيانا وبوقاحة أحيانا أخرى. إن المأمول من الأمة جميعا وليس من ايران وحدها أن ترقى بموضوع العلاقة الإسلامية ـ الإسلامية إلى أقصاها. ليس من الحكمة أن نعلق مسؤولية الفرقة على كتف جهة معينة أو اتجاه ما. إن الوحدة مسؤولية الجميع والتقريب تكليف عيني. وطبعا كل من موقعه وكل بحسبه. الأوضاع السياسية المخيمة على المنطقة لا زالت محكومة بسياسة الحذر والريبة. لا زالت السياسة تفسد الأمور. ومشكلة إيران اليوم أنها دولة كبيرة وحيوية في المنطقة. الجميع إذن يتحرج ويخشى من مبادراتها. إنها عقدة المنطقة برمتها. لكن أمام هذا المرض الايرانوفوبي ماذا يجب أن يحدث حتى تعود الثقة إلى النفوس والرشد إلى العقل؟! أدرك أيضا ذلك الإحساس الذي ينتاب الطرفين متى خلا كل منهما إلى معسكره. يبقى السؤال مطروحا هل موقف هذا الطرف من ذاك يظل هو نفسه لما يخلوا كل طرف إلى بني مذهبه؟ هنا يبدو الاختبار صعبا للغاية. كم من وحدوي يتحول إلى طائفي متعصب متى خلا إلى شيطان طائفيته. هناك انعدام الثقة بين الطرفين مهما تضخمت المجاملات تحت الأضواء الجذّابة داخل أقبية مؤتمرات التقريب. لكن هل من حد أدنى من الوفاء؟! أستطيع أن أؤكد من خلال تجربتي الشخصية الكثير من تلك الصور المقلقة. لكن بالمقابل هناك الصورة النقيضة التي تجعل للفكر الوحدوي معنى وعنفوانا من خلال المؤمنين به والنشطاء في مجاله . ففي جلسات أو زيارات خاصة مع علماء ومسؤولين شيعة عرب أو من إيران أستطيع أن أؤكد بأن حديثهم عن ضرورة التقارب والوحدة يجري على أساس كونه واجبا دينيا أولا. وهو حقا قلق يعيشه نشطاء وباحثون وعلماء . بل إنه بات حلم الجماهير المسلمة التي باتت تتوقع من علمائها وسياسييها أن يقفزوا فوق حواجز الطائفية ومعيقات النهضة ومضادات النمو. ثمة سمّاعون للفتنة من العلماء لا يتحققون. ففي العراق هناك شيوخ يطوفون عبر العواصم العربية ينشرون المغالطات ويحرضون على شيعة العراق نعرفهم ونعرف مع مت يتحدثوا وماذا قالوا. والأمر نفسه بالنسبة لبعض الشيوخ في لبنان وغيرها. وهذا يعني أن من صنّاع الفتنة شيوخ وأعلام أيضا وليس العامة إلا متلقي ساذج مفعول به لا فاعلا في هذه الفتن الضارية. ثمة مشكلة أخرى إسمها التقية. ولكنني سوف أؤكد على أن التقية أصبحت مشكلة غير الشيعة ، لأنها لا تحمل من المضامين عند غير الشيعة كما تحملها عند الشيعة. هل الشيعة يمارسون التقية في نشدان الوحدة؟ على الجواب أن يكون حسيا وليس حدسيا كما يقول الأصوليون. إننا نتحدث إلى العوام فنذكر بأنهم أبعد الناس عن أن يحسموا في أمر الخلاف. غير أننا ما فتئنا نؤجج العوام ونجعل منهم حطب الفتنة . ونصيغ لهم ـ ونسوغ ـ ثقافة تشجع وتشرعن سذاجتهم في تناول كل الموضوعات والمسائل محل الخلاف، فتكون النتيجة واضحة بعد ذلك؛ التكفير والتبديع وما يترتب عنهما من آثار تصل إلى حد استئصال الآخر وسلبه حقه في الوجود بله التعبير عن الوجود. قضية استغلال عاطفة العوام والتترس بها كما رأينا دائما حتى عصرنا هذا ، تتطلب وقفة جسورة وشجاعة قصوى. صحيح أن العوام ومن في حكمهم أكثر انفعالا من أن نسيطر عليهم. كلنا يدرك خطورة انخراطهم في هذا الجدل. لكن لا أحد يمكن أن يشكك في أن وراء وثبة العوام تكمن إرادة واعية لنخبة ما أو جهة ما تدرك متى وكيف يجب تأجيجها. من الصعب أن تتم السيطرة على الخلاف لما يصبح بين العوام. لكن من السهل أن نمنع الأمور من أن تصل إلى العوام بصورة مشوشة. إن التنوير مهمة العلماء تجاه العوام. تستطيع السياسة أن تعلم من لا يتعلم. وتستطيع السياسة أن تربي الجمهور على احترام الآخر. إننا أمام ضرورة التثقيف على القبول بالآخر ومبدأ الأخوة الإسلامية التي يجب أن تصبح جزء من برامج نظمنا التربوية. علينا أن نثقّف أجيالنا على أن الحقيقة هي أعمق مما في يدنا؟
التشيع موقف والسنة عنوان عريض
لن نخرج من المأزق إن نحن سلّمنا بالاصطلاح لمّا يكون مؤسسا لصرح الفتنة المستدامة. ومن ذلك الإبقاء على مفهوم السنة والتشيع كاصطلاحين خاصين لا يمفهومين يحملان دلالة إسلامية ، بحيث يتعذّر على المسلم إن هو استوعب مضمونهما إلاّ أن يكون سنيّا سالكا على طريق الرسول الأعظم (ص) ، إن مقتضى هذه السنّة نفسها أن يتشيّع لآل بيته الذين لم يفرق بينهما في صلاة واجبة فكيف نفرقف بينهما في تشرعنا العملي. فالتسنن قيمة في الإسلام والتشيع قيمة في الإسلام ولا يمكن تصور إحداهما إلا في ضوء الأخرى ؛ بل لا يحرز أحدهما إلا بإحراز الآخر: إنهما قيمتان متكاملتان لا متنافرتان. فلا لا زلت أرفض تداعيات الطابع الطائفي والمذهبي للتشيع؛ حيث اقتضت الصيرورة التاريخية للاجتماع الديني أن ينزوي أكثر فأكثر، ويوما بعد يوم، كلما اشتد القمع والاستبداد والبطش السياسي ، وكلما ابتعدنا عن زمن حضور الأئمة الذين كانوا أحرص الناس على وحدة الصف وبيضة الإسلام. هذا أمر طبيعي جدا. لكن كان لا بد من التذكير دائما أن التشيع يجب أن ينظر إليه ليس كمذهب بل كموقف طليعي في الأمة. لقد قدم أئمة أهل البيت تعاليم وإرشادات لها أهميتها الكبرى إذا ما استحضرنا ظروف وتحديات المرحلة التي أعقبت رحيل صاحب الدعوة. كانوا يرشدون إلى العقل كله والإيمان كله والإخلاص كله. لم تكن دعوتهم إلاّ رفع سقف القيم النبيلة لرسالة الإسلام . لم يكن حقا من السهولة أن يكون المرء شيعيا زمن الأئمة، ما دام لهذا الاختيار مغزى كبيرا، هو أن تكون من حواري علي بن أبي طالب ، تتمثل مواقفه وسلوكه وشجاعته في الصدح بالحق. ومن كان يومها مؤهلا لذلك؟! ليس غريبا أن يكون قلة فقط حينئذ من أصحابه يتحلون بتلك الصفات. وما تبقى فهو السواد الأعظم من الجمهور الذين همهم موقف هذا الأخير من العدالة الاجتماعية. وهم في حاجة إلى من يتدبرهم بالتعليم والتربية، حيث لا آفة أعظم وأخطر من آفة استسلام العلماء لرغبات العامة وخوف المصلحين من انفعالات الدهماء وتسقيف المعرفة على مقاسهم. كذلك كان موقف الحسن والحسين ومن جاء بعدهم من أئمة أهل البيت، حيث لن تجد في تعاليمهم إلا ذلك السقف المرتفع من القيم التي ألزموا بها أصحابهم والمقربين؛ كل بحسب القرب ومقدار الصحبة. مثل هذا التيار الجامع للأمة المفتوح على قضايا الأمة لا يمكن أن يسمح بأن يصبح منزويا في طائفة أو منحصرا في مذهب. الأئمة كانوا صلحاء يسعون لإصلاح الأمة وقلبهم على الأمة جميعا. من هنا وبما أن لا حديث اليوم عن وجود نواصب ، فالأمر يقتضي تخلصا من كل آثار وأحكام النصب ، حيث بدا واضحا أن التشيع أصبح قيمة أكثر مما هو عنوان مذهب. واعتقادي أن الاستبداد والتكفير والاستئصال وتمايز المذاهب عن بعضها هو الذي رسم قدر التشيّع كمذهب خاص لا كموقف إسلامي أصيل. فكل من دافع وتبنى قيمة من قيم الإسلام المدركة بالعلم العادي واليقين البسيط أو عن طريق هؤلاء الأئمة فهو على درجة من التشيع. التشيع لعلي هو تشيع للحق الذي دار معه علي حيثما دار. هو تشيع للإسلام في نهاية المطاف. على السنة أن يحاسبوا الشيعة بالتسنن الذي يؤمن به الشيعة كما على الشيعة أن يحاسبوا السنة بالتشيع الثاوي في مذهبهم أيضا. ما الذي يجعلنا نؤاخذ السنة بجملة الأخبار المروية في مظانهم على مواقفهم. وما الذي يجعل السنة يؤاخذون الشيعة بالسنة أيضا. علينا أن نحصي عدد أعلام السنة الذين عذّبوا واستشهدوا أحيانا دفاعا عن أهل البيت. ماذا نقول في الطبري الذي أحرق بيته وفي النسائي الذي قضى من آلام الضرب الذي تلقاه في الشام لما دافع عن علي بن ابي طالب وصنّف في فضائله كتاب خصائص أمير المؤمنين. لقد حق قول البروجردي وهو من أبرز المراجع الشيعية في العصر الحديث، حينما اعتبر معرفة السنة وأخبارها ضرورة لفهم التراث الشيعي. فالتشيع هو حركة تصحيحية وضمير علمي وأخلاقي كان يتدخل بموجبه الأئمة في القضايا التي يتعذر فيها على أئمة السنة إيجاد حلول لها أو في اللحظة التي يظهر فيها انحراف في الرؤية أو الموقف أو حيرة أو عجز يوجب الانسداد.
***