ادريس هاني
Monday, February 07, 2011
فوجئ الجميع بقوة اندفاع الثورة المصرية بمن فيهم الذين شاركوا فيها. لا أحد فهم سرّ هذا الكيمياء المتدفق في عروق شباب ثورة الغضب، حيث فعل فعلته في ضمير الشعب لكي يصنع تاريخه المجيد في لحظة يأس عارم وانسداد في آفاق الثورة وفلسفتها. لا أحد يمكنه أن يتنبّأ بتفاصيل هذا الحراك الجمعي ، لأن طبيعته تأتي دائما متدفقة انفعالية مضاعفة وسريعة. إذا كنت ممن يجهل سرّ ديناميات البنى ، فأنت أمام لحظة تفجر بنى تفاجئ حتى الذين يفعلون داخلها وينظرون إلى أنفسهم فاعلين وفي الوقت نفسه تتملكهم الدهشة من طبيعة فعلهم. وحيث من طبيعة الثورات أن يكون الغالب عليها الانفعال والعاطفة واللاوعي ، نظرا لما تمثله هذه الأخيرة من باعثية وزخم وفعالية قد تفقد طريقها نحو الفوضوية والوعي الشقي وغباء أكل الطعم في منتصف الطريق إذا ما زاد اللاوعي عن حدّه في غياب تام للوعي المرشّد لمسيرة الشعوب نحو خلاصها؛ أجل ، حيث ذلك من طبيعة الثورات الشعبية ، فإن ما ليس طبيعيا أن الديكتاتورية تجهل الكثير عن فلسفة البنى وسرّ حراكها لأن الديكتاتورية هي نقيض فعل البنية ، لأنها تتحرك بصفتها الشخصانية ؛ بل إنها تعمل على إحكام غلق البنية ومراكمة الضغط عليها إلى حدّ أن يصبح التفجّر طبيعيا يستدعي أدنى حراك للشعب لكي تنجز البنى لحظتها التاريخية. إن الديكتاتورية طرف أساسي في صنع الثورة وعامل في تسريعها بهذا المعنى وليست ضد الثورة. إحدى أبرز أسباب هذا التدفّق كونه تدفق شعب خائف مكبوت. والمكبوت ليس له طريقا للتعبير عن احتجاجه سوى بالتفجّر. والخائف إذا ما كسر حاجز الخوف عن نفسه لن يعود خشية الانتقام بعد أن فقد الثقة كلّها في جلاّده . إنها طبيعة الأشياء، فالكبت والخوف يصنع أبطالا ويمنح الثورات من التدفق والانفجار ما لا مجال لحلّه إلاّ بالتغيير. إن حسني مبارك ومجموعة البلطجية السياسية التي يستند إليها في الربع الأخير من مقاومته من أجل البقاء في السلطة ، يواجه كل قوانين الاجتماع السياسي ، لأنه يتحرك داخل لحظة انفجار البنية الاجتماعية ، وهو ما يعني أن السباحة ضد التيار تغرق صاحبها. ويبدو أن واشنطن وتل أبيب اللذين يجدان نفسيهما المعني الأول بالحدث المصري على دراية بكثير من أسرار وفصول هذا التحول، لكن ثمة دائما جانبا يظل غير ممكن التنبؤ به؛ إنه مدى تدفق الشعب وحركته. ففي الأرصاد الجوية نستطيع أن نتنبأ بالعواصف والفيضانات؛ لكن لا ننجح بالضرورة في تدبير الوقاية اللازمة حينما يغمر الماء جميع المحلات والطرقات ويحفر طريقه بمنطقه الخاص الذي عادة ما يفاجئ الجميع. ليس أمام حسني مبارك ومعاونيه من تل أبيب اليوم سوى أن يجتهدوا عبثا في تكديس أكياس الرمل لمنع تدفق الماء من أن يخرج من حدّ نشدان الحرية إلى حدّ نشدان التحرر. وهنا بيت القصيد ومربض الفرص.
ماذا بعد خرجة مبارك الثانية؟
خرج مبارك ليخطب خطبة أخرى نزولا عند رغبة الرئيس الأمريكي أوباما. وكان متوقعا أن ما يعقبها هو محاولة أخرى لشق صفّ المحتجّين في ساحة التحرير. وبالفعل سيكشف مبارك عن أسلوب جديد في قمع الثورة ، باعتماد البلطجية والأمن لينزلوا إلى الشارع ويمارسوا العنف ضد المحتجين بوصفهم مؤيدين لمبارك. وحتما من شأن هذا العمل الذي أثار جملة من نقاط الاستفهام لا سيما وأنّ الجماهير الافتراضية المؤيدة لمبارك تنزل إلى الشارع على الأحصنة والجمال مدججة بالأسلحة البيضاء وغير البيضاء ، أن تثير ردة فعل في الطرف الآخر الذي بدأ يتحرك هو الآخر لمؤازرة جمهور المحتجين. لا شيء يمكنه إيقاف الثورة أو منع المسيرة الاحتجاجية الحاسمة يوم الجمعة، الموسومة بمسيرة رحيل الرئيس. الذي يتجه بالثورة إلى الفوضى هو مبارك ومعاونيه وإسرائيل، حيث يبدو أنهم في وضع أكثر تجاذبي ما بين رغبة واشنطن بأن يكون التغيير سريعا على حساب رحيل مبارك وبين رغبة تل أبيب في الإبقاء على مبارك ونظامه. هذا التجاذب هو ممن أطلق لسان مبارك في جوابه على كلام أوباما، بأنك لا تعرف ثقافة الشعب المصري ، أي أن رحيله عن مصر سيؤدي إلى الفوضى. بينما الفوضى لم يصنعها شعب الثورة المنظم والمسالم . والواقع أن في مصر اليوم لا شيء أكثر انضباطا وشفافية وسلما من الثورة نفسها. بينما خطر الفتنة والفوضى سيكون خيار مبارك ومجموعته بعد أن اختزلوا مصر في قرارهم، وباتوا أكثر إصرارا على أن يواجهوا نداء الشعب ، بنداء مضاد ، مفاده : "أيها الشعب ، عليك أن ترحل.. إن مبارك لا يطيقك". ومع أنّنا لم نجد أي حرب طائفية بين المسلمين والأقباط في عزّ هذه الثورة ، فإن العبث بهذا النوع من الأوراق سيظل آخر أوراق الرئيس مبارك إذا لم يكن ثمة من مانع لتأجيج هذا الوضع. ولا شك أن واشنطن التي ترفض أن يلعب مبارك بأوراق من هذا القبيل لأنها تريده أن يرحل اليوم قبل غد ، قد تسمح بهذا اللعب في المرحلة القادمة من ترتيب الوضع المصري.
على هامش ميدان التحرير
توجد حرب إسرائيلية وأمريكية باردة
يخطئ من يعتقد أن المسألة المصرية لم تكن مطروحة في دوائر التفكير الاستراتيجي داخل واشنطن أو تل أبيب. إن حالة مصر من أعقد الحالات التي تمّ تحييدها على مدى عشرات السنين من الصراع العربي ـ الإسرائيلي. كانت مصر خاضعة لقرار سلم غير عادل وليست طرفا في معاهدة سلام. لكن لا ننسى أن واشنطن تدرك أن الرئيس العجوز الذي يعاني من أمراض مزمنة على وشك الرحيل. فهل يعقل أن واشنطن وتل أبيب لا تفكران في مستقبل مصر غداة رحيل مبارك؟! بدأت الحكاية بجدية من خلال طرح فكرة التوريث والخليفة المفترض جمال مبارك. اتضح أن جس النبض لم يأت بنتيجة مريحة. لا خيار إذن أمام واشنطن سوى أن تسبق الشعب المصري لرفع اليد عن مبارك على أن تكون الحركة الاحتجاجية محدودة تقبل بأنصاف الحلول. وذلك دائما في عملية استبدال مطلب التحرر بمطالب للحرية والانفتاح. لا ينتظر من واشنطن أن تعبر عن مواقف عدائية للشعب المصري تظهر تحيّزها لمبارك. لقد بدأت الحكاية منذ أن بدأ الحديث عن التوريث وعودة البرادعي إلى مصر ليكون الرجل المناسب لمنافسة مبارك على السلطة في الانتخابات. أمام واشنطن خيارات كثيرة، لكنه لم يكن أمامها سوى هذه المغامرة أيضا بأن ترفع يدها عن مبارك الذي لا يمكنه أن يستمر من دون دعم واشنطن وتل أبيب. تشعر إسرائيل أنها بقيت وحيدة داخل محور الاعتدال. وقد عبّر بعض رجالاتها على أنه لم يبق في هذا المحو سوى إسرائيل والسعودية ، باكيا خسران حلفائهم. المثير هنا حقا أن بعضهم يخشى أن تعامل أمريكا يوما إسرائيل بنفس الطريقة التي تعاملت بها مع حلفائها. يكفي الاطلاع على ردود فعل قيادات الكيان الاسرائيلي لمعرفة مدى جدية الخلاف بين واشنطن وتل أبيب على هامش ثورة الفل.
أمريكا أوّلا
الحرب الباردة بين واشنطن وتل أبيب على هامش الثورة المصرية لا تقل أهمية عن سائر الأحداث اليوم في المنطقة. إسرائيل تشعر أن أمريكا ترتكب أخطاء كبيرا وتجهل الأوضاع في المنطقة. ليس مصادفة أن تكون تلك هي وجهة نظر إسرائيل ومبارك في رده على أوباما. وتتمثل قوة أمريكا في أنها تملك قوة رفع اليد عن مبارك تجاه ثورة الشعب المصري كما تملك التواصل مع المؤسسة العسكرية المصرية. هذا بينما ليس في يد تل أبيب سوى التواصل مع مبارك وأعوانه في السلطة ، جيشهم الاحتياطي هو بعض المستفيدين من النظام والبلطجية. ما تؤكّد عليه تصريحات قادة واشنطن لا يعني أكثر من إبداء رغبتهم تجاه ما يحدث في مصر. لكن هذا لا يعني أنهم مهتمين بمطالب المصريين أكثر من نظام مبارك الذي يعتبر صنيعتهم الكبرى في الشرق الأوسط ، بل يعني ذلك أن رحيل مبارك وقيام نظام قريب منه أكثر حريّة شخصية وأقلّ تحررا من الناحية القومية ، هو أهون الشّرّين بلا شك. لكن هذا لا يعني أن أمريكا لا تحتفظ ببعض الأوراق لإجهاض ثورة الشعب المصري حتى بعد رحيل مبارك، من بينها اعتماد الفوضى الخلاّقة والفتنة وشقّ صفوف المعارضة نفسها بصورة أكثر وضوحا وحدّية مما يجري الآن. تعتقد واشنطن من جهتها إنها دفعت الثمن غاليا باندفاعها وراء توريطات إسرائيل لأمريكا في المنطقة. وتدرك أنه آن الأوان للامساك بزمام الأمور في الشرق الأوسط بناء على رؤية إستراتيجية تراعي المصالح القومية العليا لواشنطن. إسرائيل تشعر أن أمريكا باتت تستغني عن وجهة إسرائيل في الشرق الأوسط. فلقد حصد الأمريكيون طيلة عشرات السنين الكثير من الخسارات في هذا المجال العربي والإسلامي نتيجة التماهي الأمريكي مع وجهة النظر الإسرائيلية التي باتت تنزع نحو التطرف والغلو إلى حدّ التضحية بمصالح أمريكا نفسها في المنطقة. تحاول أمريكا أن تغير في وضع المنطقة كنوع من تصحيح أخطائها في التنكر لمطالب الشعوب ودعم الاستبداد في المنطقة. بهذا تعتقد واشنطن أنها تمحي عنها صورة الماضي الأمريكي التي بلغت أوجها في العهد البوشي الموسوم بالتدخل والغزو الأمريكي. وتعتقد واشنطن أنه بهذا تستطيع أن تخدم إسرائيل بعيدا عن وجهة نظر المتشددين واليمين الإسرائيلي كما تستطيع أن تعيد مصداقيتها وتحقيق مصالحها في المنطقة بتكلفة أقلّ. هي إذن ، لعبة معقدة لكنها جادة . واللعب على هذا التناقض مهم بالنسبة للعرب وتحديدا الفلسطينيين. إن إسرائيل تشعر أنها ليس فقط تخسر حلفائها الضعفاء في المنطقة بل تجد نفسها تخسر حليفها الاستراتيجي : الولايات المتحدة الأمريكية. يهم أمريكا أن توجد نفحات ديمقراطية في المنطقة على أن لا يتعدى مطلب الحريات إلى مبدأ التحرر. لكن إسرائيل لا يوجد عندها ضمانات لعدم حدوث تعدي بالمطالب إلى حد تمزيق معاهدة السلام.أما واشنطن التي تؤمن بالمقامرة مع وجود أمل بانتصار وجهة نظرها دائما ، فهي تدرس الأوضاع بشكل أعمق من إسرائيل. فالولايات المتحدة الأمريكية تراهن على سوق عربي وإسلامي تتعدى نفوسه المليار والنصف . هنا توجد الجغرافيا الواسعة والقاعدة الشبابية التي تتفوق على إسرائيل عجوز سوف ستختنق في جغرافيا صغيرة وممزقة ومليئة بالمخاطر والتحديات وغياب المشروعية.. هنا توجد أيضا الطاقة والتحول الواعد بمجتمعات لا يمكن أن تظل مسجونة في التخلف والاستبداد إلى ما لا نهاية.. وهنا توجد قوى عربية وإسلامية صاعدة لن تستفيد منها أمريكا وهي ترهن سياستها الخارجية للقرار الاستراتيجي الحربي الإسرائيلي؛ لن تظل إسرائيل هي التي تملك الهيمنة ولا قرار الحرب أو السلم في المنطقة كما لن تظل وحدها المحتكر لأسباب القوة والردع في المنطقة. يجب أن نذكر بأن إسرائيل ليست هي الولاية 51 الأمريكية. بل هي حليف استطاع من خلال حروبه ضد العرب أن يقنع أمريكا بأنه قادر على حماية مصالح الغرب في المنطقة. وقد أعطت أمريكا فرصة كبيرة لإسرائيل لكي تعيد تكريس هيبتها لكنها فشلت بعد أن فقدت كل إمكانيات السيطرة لا سيما بعد أن أصبحت ترفض حتى صيغة أوسلو للسلام. حينما تصبح إسرائيل خطرا على نفسها وعلى أمريكا بعد أن تراكمت لديها قوة عسكرية هائلة مع إفلاس سياسي واستراتيجي كبيرين، دون أن تتقدم على مستوى الوجود الرمزي والمصداقية ، وجب على واشنطن أن تتدخّل أكثر ؛ هذه المرة في السياسة الإسرائيلية وليس فقط في مصر. المناعة الزائدة أحيانا تكون قاتلة. إسرائيل لا تقرأ التغيرات جيدا ، لأنها أسيرة هجّاس المواجهة والحرب ، بينما في وسع أمريكا أن تقرأ التحولات بكثير من البراغماتية والمقامرة على الأقل. ولا يوجد ما يؤكد لواشنطن أن إسرائيل تستطيع أن ترهن شعوب المنطقة إلى لعبة الترعيب التي أنتجت تفجرا في المنطقة لم يعد بالإمكان السيطرة عليه لا إسرائيليا ولا أمريكيا. مطالب إسرائيل هنا غير براغماتية وغير عقلانية في نظر الخبراء الأمريكيين. فإسرائيل تعتبر أن مبارك والديكتاتورية عموما أهم للعالم العربي من الديمقراطية. بينما لا يوجد لدى الأمريكيين مما يؤكد على أن استمرار الاستقرار في المنطقة من خلال الديكتاتورية والاستبداد أمر منطقي ومعقول حتى بحساب الربح والخسارة. كم وجب أن تصرف واشنطن على هذا الكبت العربي لكي ترضي إسرائيل وتخسر هي سمعتها ومصالحها في العالم العربي وبالتالي العالم الذي بات يتأثر بما يجري في الشرق الأوسط؟! لم تخسر أمريكا فقط المال من أجل إسرائيل، بل بدأت تخسر مصيرها وأمنها القومي وكذا قدمت الكثير من دماء جنودها في سبيل قرارات غير محسوبة أثارت عليها حراكا احتجاجية داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. اليوم تفكر أمريكا بمنطق تدبير الأزمات وبمنطق المصلحة الأمريكية أولا. تستدخل الاستراتيجيا الأمريكية جملة من العناصر منها المصالح القومية الأمريكية الاقتصادية والسياسية ، بينما تختزل الاستراتيجيا الإسرائيلية في مداها العسكري. ولم يعد التخويف من الإخوان المسلمين يثير فضول واشنطن، لأنها تقرأ الأحداث بصورة أخرى. وعموما لم تعد واشنطن التي دخلت في حرب مع الحركات الإسلامية في حاجة إلى دروس إسرائيلية حول الشرق الأوسط والجماعات الدينية هناك. فأمريكا باتت وخلافا لإسرائيل تميز بين تيارات المنطقة وإمكاناتهم. بل تعلمت من حربها في العراق وأفغانستان أنها تستطيع أن تمضي في حوارها حتى مع المتشددين. العقل السياسي الأمريكي وخلافا للإسرائيلي الكثير الحذر والهواجسية هو عقل مغامر ومقامر. وعلى العموم فإن الأمريكيين يهمهم أن توجد في العالم العربي حكومات إسلامية ديمقراطية كما هو حال تركيا. فهذا يزعج إسرائيل لكن لا يزعج أمريكا بالقدر نفسه. علينا أن ندرك ابتداء من اليوم أن مصير إسرائيل هو قضية حياة أو موت بالنسبة لإسرائيل ، لكن بالنسبة لواشنطن ، مصير إسرائيل مرتبط بمدى قدرة هذه الأخيرة على تأمين المصلحة الأمريكية؛ إنها بالنتيجة مسألة مصلحة. كما تدرك أمريكا من خلال دراستها للوضع المصري أن الإخوان غير قادرين على السيطرة على مصر بعد تجربة توفق 80 عاما على المشهد السياسي المصري بل هم طرف منه تعلم الكثير من أصول المشاركة السياسية. المشكلة هنا أن أمريكا تتغير في نظرتها الإستراتيجية بينما إسرائيل باتت تعاني الكثير من الإفلاس الاستراتيجي لوضعها الحرج الذي لا يتيح لها الكثير من الوقت للتفكير والكثير من الإمكانيات لاستيعاب التطور الحاصل في المنطقة. ثمة دائما وجهتي نظر لدى الأمريكيين حيال ما يجري في العالم الثالث وتحديدا في الشرق الأوسط. وكلا النظرتين أجملتهما أطروحتي فوكوياما وهينتنغتون. وإذا كانت سياسة واشنطن تتراوح بين النظريتين وأحيانا تدمج بعضهما ببعض بعناية ، فان ما يبدو من سياسة حالية لواشنطن هو تخليها عن موقف فوكوياما وانفتاحهما على هنتنغتون. والغريب أن القراءة السيئة لهذين الأطروحتين هما ما جعل الكثير من العرب يخطئون أسلوب السياسة الأمريكية ، حينما اعتقدوا أن هينتنغتون يتحدث عن صدام حضارات ، حيث فهموا الأمر على أنه تحريض على الحرب. ذكرنا مرارا أن هذه القراءة السيئة لهنتنغتون ناتجة عن خطأ في التقدير. فنظرية هنتنغتون ليست جديدة بل هي إعادة تأليف لوجهة نظر موجودة دائما في الولايات المتحدة الأمريكية. كما أن صدام الحضارات لا يعني عند صاحبه أن ثمة خطوط صدع يجب أن تدركها السياسة حتى تحسن التعاطي مع المختلف . وتمكن هذه النظرية التي لم يتشبت بها صاحبها إلا على أساس أنها إمكانية باراديغمية مثل سائر النماذج الممكن استعمالها في التحليل ، أجل ، تمكّن هذه النظرية السياسة الأمريكية من الكف عن التدخل بدعوى نشر الديمقراطية ، مع بيان عدم قدرتها على حل معضلة مزمنة تقف وراءها مشكلات حضارية وليست سياسية. تدرك أمريكا اليوم وبناء على هذا المنظور أن رسالتها كما اتضح ذلك أيضا مع اوباما في بداية رئاسته ، ليس إكراه الدول على الديمقراطية لكنهم سيساعدون كل مجتمع يريد الانفتاح والديمقراطية. وهنا لن تبتدئ أمريكا ضغوطها على الدول باسم الديمقراطية ، لكنها ستدعم كل حراك ينطلق منها على أن تلعب لعبة السيطرة على تدبير أزمات الانتقال الديمقراطي بصورة تؤمّن مطالب الحرية دون مطالب التحرر التي تعني مواجهة إسرائيل . إذ لا زالت أمريكا ملتزمة بحماية إسرائيل حتى هذا الوقت. لكن إسرائيل تدرك قبل غيرها أن أمريكا لا يمكنها أن تحميها إلى ما لانهاية. وفي حدود المستقبل القريب والمتوسط لن تستطيع أن تحميها إلا بشروط ، وفي المسقبل البعيد مع أقل تقدير للتوقيت ، ستضطر واشنطن للتخلّي عن إسرائيل نهائيا ، وحينئذ لن تفيدها أوربا العجوز. وهذا يعني أن لا مخرج لإسرائيل اليوم إلا بعد أن تفتح صندوقها الأسود لواشنطن ولا تخفي الكثير من سياساتها وقراراتها الخاصة عن حليفها الاستراتيجي. إن إسرائيل اليوم ليست الولد المدلل لأمريكا بل هي الولد الشقي الذي بات يجلب الكثير من الإزعاج للأب الحاضن أو المتبني؛ وفي مثل هذه الحالة قد يتخلّى الأب بالتبني عن الولد بمقدار ما يزداد عقوقه وشقاوته. قد نعيش عصرا يصبح فيه التدخل الأمريكي في السياسة الإسرائيلية أمرا مألوفا. وستكون هذه التبعية الإسرائيلية مؤ شرا على مستقبل لإسرائيل لا يقل غموضا عن استمرارها في وضعيتها الحالية. كل الشروط التاريخية والموضوعية تدفع بإسرائيل لأن تعلن تفكيك نظامها العنصري والاحتفالي كما كان وضع نظام الابارتهايد في بريتوريا. الحل الوحيد الذي تصبح معه مسألة عودة اللاجئين والأرض والصراع بلا موضوع. ما نؤكد عليه هنا هو أن سبب تأخر الحل في مصر راجع إلى الحرب الباردة بين واشنطن وتل أبيب ، بينما لا يزال الشعب يمسك بزمام المباردة ، وهو قادر على إنهائها على طريقته أيضا.
الجيش يستعيد ذاكرته المنسية من داخل ميدان التحرير
اطمأنّ الشعب إلى الجيش الوطني المصري لا سيما بعد التطمينات التي صدرت عن قيادته ، باحترام هذه المؤسسة لتطلعات الشعب المصري. نزل الجيش إلى الشارع دون أن يقحم نفسه في مواجهة ضد الشعب. لكن كان ثمة جيش احتياطي للنظام خارج الشرعية، يتعلق الأمر بعصابات من الغوغاء والبلطجية لتعويض ما لم يفعله الجيش المرابط على نوع من الحياد الايجابي والأمن الذي أعرب عن عجزه التام عن مواجهة الأمواج المليونية في ساحة التحرير بالقاهرة. لكن ثمة ما أدى إلى إرباك هذا الاطمئنان ، لا سيما حينما سمح الجيش للبلطجية كي يعبروا من كل الممرات بالجمال والبغال لينفذوا واحدة من خطط مبارك وعمر سليمان لإرهاب الاعتصام الشعبي. الجيش أقوى من قوات الأمن لكنه ليس تحت التحكم المطلق لمبارك، الذي عزله وهمّشه طويلا. وهنا وجب أن نتعرف عن دور الجيش المصري والتحديات التي تواجهه هذه المؤسسة التي لا زالت تعيش تحت نظام من الرقابة يفوق رقابة النظام على الشعب نفسه. لقد فرضت الهزيمة على الجيش المصري على الرغم من أنه خاض حربه مع إسرائيل في أكتوبر بنجاح قبل أن تخونة القيادة السياسية. وقد وجد نفسه منذ ذلك العهد ضمن معادلة صعبة. لا يمكن الحديث عن أن النظام المصري وكذا إسرائيل وواشنطن التي تقدم معونات عسكرية مهمة لهذا الجيش ، كان باستطاعتهم أن يضغطوا على الجيش أكثر من هذا الحد. فالخوف من ثورة الضباط الأحرار التي هي صناعة مصرية بامتياز بات أمرا مقلقا يفسر هذا الحجم من الرقابة والعناية الأمريكية بهذا الجيش. لكن في الوقت نفسه لا نتحدث عن أن هذا الجيش متحرر من التحكم الكامل بقرارات النظام. إن حركة الجيش اليوم في مصر محسوبة جدا ، ولا تزال خطوط الاتصال موجودة مع بعض قياداته المحسوبة على النظام مع واشنطن. ومن هنا لا غرابة من وجود اتصالات بين روبرت جيتس و محمد حسين طنطاوي حتى بعد اندلاع الثورة. إنّ عدم تدخل الجيش لفرض الر حيل على مبارك أمر مدروس ، وهم في أقل التقادير أمام مسألة تتعلق بمآلات الأمور. إن أي انقلاب عسكري من هذا القبيل سيضع مصر في فوهة بركان وحتما سيكون قرار فرض الحرب الاستباقية عليها أمرا قابلا للتبرير. تشعر المؤسسة العسكرية في مصر اليوم بالحاجة إلى ثورة الجماهير لتحريرها من كل هذه المعادلة الصعبة التي فرضتها عليها معاهدة السلام. اليوم يكون الجيش المصري أحوج إلى الجماهير منها إليه. ويبدو أن نفوذ واشنطن على المؤسسة العسكرية المصرية أكثر من نفوذ إسرائيل. وقد بات واضحا أن بمجرد أن طفت الاختلافات في الرؤية بين واشنطن وتل أبيب في تدبير الأزمة المصر ية حتى وجدنا انقساما في الأدوار. فبينما أصبح مبارك في نزع نظامه الأخير تحت الرعاية المباشرة للموساد ، استمر تواصل واشنطن بالجيش المصري. هناك معركة خفية أخرى على أرض الكنانة بين إسرائيل وواشنطن. مبارك يراعي اليوم وجهة نظر الموساد بينما يراعي الجيش المصري فقط القرار الأمريكي. يحصل هذا حتى لو بات مكشوفا مدى علاقة عمر سليمان بكل المؤسسات النافذة في إسرائيل من الموساد والشباك حتى المخابرات العسكرية في علاقات شخصية وثيقة كما تحدث عنه يوسي ميلمان في صحيفة هارتس ، حينما وصفه من خلال مقال تحت عنوان: "عمر سليمان: الجنرال الذي لم يذرف دمعة خلال حملة الرصاص المصبوب"، بأنه من بين من ساهموا في إنجاز صفقة الغاز المصري لإسرائيل بثمن رمزي يقل عن الثمن العالمي. ستجد مؤسسة الجيش المصري نفسها في وضع متحرر عند رحيل مبارك ، لكنها ستجد نفسها أمام إكراهات جديدة بسبب التزاماتها تجاه واشنطن التي بدا أنها بصدد الإمساك بزمام الأمور هذه المرة في الشرق الأوسط بعيدا عن هيمنة وجهة النظر الإسرائيلية على القرار الأمريكي.
مبارك و حرب الجمل
لم تبق مع مبارك قوة الجيش . إسرائيل نفسها لم تستطع يوما خرق هذه المؤسسة وذلك ما منح الدور لواشنطن في هذا المجال. فضلت المؤسسة العسكرية التعاون العسكري مع واشنطن لتضمن مدى تحررها من سيطرة إسرائيل وتدخلها المباشر في أوضاع الجيش المصري. واشنطن تدعم وتدرب وبالتالي تراقب المؤسسة العسكرية بينما إسرائيل تكتفي بهذا الحل ، لا سيما وهي تدرك أن واشنطن لا يمكنها أن تسلمها الجيش المصري ، لأن إسرائيل تدرك أن الجيش المصري لم ينهزم بل السياسة في مصر هي التي انهزمت تحت الضغط المتواصل والاستسلام السريع لواشنطن. ومن هنا لم يعد لإسرائيل سوى مبارك وأعوانه وعصابات البلطجية الجيش الاحتياطي لكل ديكتاتور منزوع الشرعية السياسية والتاريخية . مما يشعرها بالحاجة إلى أمريكا دائما رغم اختلاف وجهات النظر. ولا شك في أن خطة ترويع المعتصمين في ميدان التحرير من خلال تعبئة البلطجية المؤلفين من الخارجين عن القانون ، هو مخطط متفق عليه بين مبارك وأعوانه ومجموعة الموساد التي تدبر الأزمة في القاهرة على طريقتها. يتأكد ذلك من خلال تأييد إسرائيل لمقاومة النظام المصري ضد الثورة ، كما يتأكد من خلال إصرار إعلام بعض دول الاعتدال على قلب الحقائق وتصوير البلطجية على أنهم جماهير مؤيدة للنظام فيما جماهير الثورة خارجون عن القانون. ويتأكد ذلك من خلال موقف واشنطن من العنف الذي ينتهجه نظام مبارك ضد الشعب. يجب على مبارك ومعاونيه أن ينفذوا السياسة الإسرائيلية كما وجب أن يكذبوا لإرضاء واشنطن ، وهذا هو ما يفسر غموض تناقضات بقايا النظام المصري. بعد حرب الجمل التي خاضتها البلطجية والجيش الاحتياطي لمبارك ضدّ الثوار في ميدان التحرير ، تحدث عمر سليمان عن خطة لمحاكمة الخارجين عن القانون وعن مبادرات لتنفيذ عدد من الإصلاحات. لكن أعقبها حديث عن فتح حوار مع بعض الشخصيات والقوى الممثلة لأحزاب متفاوتة في القوة والنفوذ والمصداقية. في تلك الأثناء تحدث عن أن الإخوان المسلمين لا زالوا مترددين في الحوار. مترددين وليسوا رافضين. مؤكدا على أنها فرصتهم التاريخية. في كلام عمر سليمان رسالة العصا والجزرة. فمن ناحية هناك لعبة لفظية لزرع الشك وبالتالي تشقق المعارضة ما بين قابل للحوار ورافض له. قبول الإخوان المسلمين لأول مرة بالتفاوض مع النظام في الوقت بدل الضائع أمر إن لم يضر بمصداقيتهم فلن ينفعهم. لكن النظام يعتبرها فرصتهم الأخيرة لأنه على وشك الدخول في لعبة آخر الأوراق بتوريط الإخوان في قيادة الثورة والدخول بقوة لقمع التظاهرات مدعوما من قبل إسرائيل وواشنطن إذا ما استطاع عمر سليمان حشر الإخوان في الزاوية واستقطاب حلفاء من داخل الأحزاب والتف على مطالب شباب ثورة الغضب. وهو وإن كان خيارا بعيد المنال نظرا لإصرار الشباب على المضي في مطالبهم إلى النهاية ، فإن الأمر إن استجابت له جماعة الإخوان المسلمين سيعد انتحارا لتاريخها وسمعتها ناهيك أنه سيكون مؤشرا على ضعف في الإخوان أنفسهم. والواقع أن الذين استجابوا للحوار قبل تحقق ما يطمئن الشارع المصري وجدوا أنفسهم ضيوفا على الثورة لا قادة لها. ومن هنا سيخطئ كل من يقيم مقايسات بين ثورة تونس ومصر وباقي الثورات التي تمتعت بقيادات تاريخية فاعلة. اليوم لا أحد يملك أن يدعي أنه يتحدث باسم الثورة. والذين يطمعون في ما يمكن أن تحققه الثورة يمكن إقناعهم بما يمكن أن يحققوه مع النظام الحاكم اليوم. إن الأحزاب والقوى التي التحقت بالتظاهرات التي فجّرها الشباب، سيجدون أنفسهم اليوم أو بعد رحيل مبارك إذا على مفرق الطريق. ولن تأتي الفتنة والفوضى إلا إذا ظهر الشرخ قبل أوانه. وعلى هذا الحبل سيلعب نظام مبارك وسيواصل اللعبة. وستبقى إمكانية النجاح في هذه الخطة رهينة بيقظة شباب ثورة الغضب. الذي يرفع الخوف من سرقة الثورة ، أنه إذا كان من بين القابلين بالحوار شخصيات لها أهميتها في المشهد السياسي المصري بعضها له قراءة أقل انتهازية من سائر الأحزاب الفطرية ، فإن الكثير من تلك الأحزاب ينطبق عليها حقا ما وصفها به عبد الحيلم قنديل القيادي في كفاية ، بأنها أشبه بأكشاك سجاير على أرصفة السياسة والتاريخ.