قول عمر : هجر رسول الله صلى الله عليه وآله ،
قيل : وعلى كل حال فإن أكثر المحدثين والمؤرخين ذكروا بأن عمر بن الخطاب قال : أن رسول الله (ص) يهجر .
قال الكاتب : من هؤلاء المحدثون الذين ذكروا هذا وأين ؟ وقد نسب هذا الكلام لعمر وعزاه للبخاري فمن وجده فحسن ومن لم يجده فليعلم انه كاذب .
نقول : لا شك أن الكلام مبني على المتبادر إلى الذهن من وحدة القائل في روايتين نقلهما البخاري عدة مرات في كتابه ، ونقلهما معا في كتاب المغازي باب مرض النبي (ص) ووفاته ، وننقل الحديث الأول عن كتاب الجهاد باب جوائز الوفد :
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (رض) أنه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء ، فقال : اشتد برسول الله (ص) وجعه يوم الخميس فقال : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : هجر رسول الله (ص) ، قال : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه ، وأوصى عند موته بثلاث أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ونسيت الثالثة " (1) .
وننقل الثانية من كتاب العلم : " عن ابن عباس قال : لما اشتد بالنبي (ص) وجعه قال ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ، قال عمر : إن النبي (ص) غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا ، فاختلفوا وكثر اللغط ، قال : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع ، فخرج ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (ص) وبين كتابه " (2) .
فالمتبادر للذهن أن المتكلم في الحالتين شخص واحد ، ولكن حينما ذكرت العبارة الشديدة أبهم اسم القائل ، وحينما ذكر الاسم خففت العبارة إلى " غلبه الوجع " .
ثم ما هو موقع كلمة ( حسبنا كتاب الله ) ماذا تعنى ؟ وماهو مبررها المعقول مع علمنا بأهمية سنة الرسول (ص) ؟
والله تعالى يقول ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) .
وقد روى الترمذي عن رسول الله (ص) قوله : " لا ألفين احدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه " .
قال أبو عيسى – الترمذي - : " هذا حديث حسن صحيح " (3) .
بل فظاعة عبارة ( حسبنا كتاب الله ) تجدها في تعليقة الذهبي على ما روي من منع أبي بكر للتحديث عن رسول الله (ص) قال الذهبي : " فهذا المرسل يدلك أن مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري لا سد باب الرواية ، ألا تراه لما نزل به أمر الجدة ولم يجده في الكتاب كيف سأل عنه في السنة فلما أخبره الثقة ما اكتفى حتى استظهر بثقة آخر ولم يقل حسبنا كتاب الله كما تقوله الخوراج " (4) ، واعتقد أن الذهبي غفل هنا عن أنها كلمة صدرت من عمر كما صريح نص البخاري .
وقد حاول بعض مفسرو الخبر تبرير قول عمر بأنه نبع من شفقته على رسول الله (ص) ، فهل المشفق هنا يقول له : حسبنا كتاب الله فلا داعي للكلام ؟ أم أن الإشفاق يقتضي إعانته على الوصية وأن يقال : تحدث يا رسول الله بما تراه أنت المصلحة ، فكلنا آذان صاغية لحديثك ونتعهد كلنا بتوثيقه وإبلاغه إلى الناس كافة .
والتاريخ بمحصوله الهائل من كتب الحديث والتاريخ لم يحفظ لنا سوى الوصية بأمرين عاديين لا تمتان بصلة إلى الأهمية الكبيرة التي ذكرها رسول الله (ص) للأمر الذي أراد كتابته بملاحظة القول بأن الأمة لن تضل بعده أبدا ، ثم هؤلاء الرواة للأمرين المذكورين نسوا الوصية الثالثة .
فقد روى البخاري في باب مرض النبي (ص) ووفاته عن ابن عباس : وأوصاهم بثلاث قال : أخرجوا المشركين من جزيزة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم وسكت عن الثالثة أو قال : فنسيتها (5) .
ولكن مع ذلك كله فقد صرح ابن الأثير في كتابه ( النهاية في غريب الأثـر ) ونقل عنه ابن منظور في ( لسان العرب ) وأبو حامد الغزالي في كتابه ( سر العالمين ) أن قائل كلمة هجر هو عمر ، فقال ابن الأثير في مادة [ هجر ] :
" ومنه حديث مرض النبي (ص) قالوا : ما شأنه ؟ أهجر ؟ أي اختلف كلامه بسبب المرض على سبيل الاستفهام ، أي هل تغير كلامه واختلط ، لأجل ما به من المرض ، وهذا أحسن ما يقال فيه ولا يجعل إخبار فيكون إما من الفحش أو الهذيان ، والقائل كان عمر ، ولا يظن به ذلك " (6) .
ومقصوده أن العبارة هي : " أهجر ؟ على نحو الاستفهام ، ولا يجوز أن يعتبر إخبار لأنه إما اتهام للرسول بأنه يتكلم بالفحش أو أنه يهذي وهنا القائل عمر ، فإذن لا يمكن أن يتهم رسول الله (ص) بالفحش والهذيان .
ولكن كيف يجيب ابن الأثير على الصيغة الواردة في صحيح مسلم في كتاب الوصية باب ترك الوصية فقد نقل عن ابن عباس قوله : " فقالوا : إن رسول الله (ص) يهجر " (7) ، فهل يمكن حمل هذا على الاستفهام ؟!
وكذلك ظاهر تعليق ابن حزم في كتابه ( الإحكام ) على الخبر ، فبعد أن نقل الخبر بلفظيه قال : " هذه زلة العالم التي حذر منها الناس قديما وقد كان في سابق علم الله تعالى أن يكون بيننا الاختلاف وتضل طائفة وتهتدي بهدي الله أخرى ، فلذلك نطق عمر ومن وافقه بما نطقوا به مما كان سببا إلى حرمان الخير بالكتاب الذي لو كتبه لم يضل بعده " (
.
=============================
(1) صحيح البخاري ج4 ص 85 .
(2) صحيح البخاري ج1 ص39 .
(3) سنن الترمذي ج5 ص 37 .
(4) تذكرة الحفاظ ج1 ص 3 .
(5) صحيح البخاري ج6 ص 11 .
(6) النهاية في غريب الأثر ج5 ص212 ، لسان العرب ج5 ص254
(7) صحيح مسلم ج 3 ص 1259 .
(
الإحكام في أصول الأحكام ، المجلد الثاني ، ج7 ص 447 .