إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه فقال: " فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم اولو الالباب ".
يا هشام بن الحكم إن الله عزوجل أكمل للناس الحجج بالعقول وأفضى إليهم بالبيان ودلهم على ربوبيته بالادلاء، فقال: " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار " - إلى قوله - لآيات لقوم يعقلون ".
يا هشام قد جعل الله عزوجل ذلك دليلا على معرفته بأن لهم مدبرا، فقال: " وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ". وقال: " حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون " وقال: " ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي بعد الارض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) ".
يا هشام ثم وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة فقال: " وما الحيوة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ". وقال: " وما اوتيتم من شئ فمتاع الحيوة الدنيا وزينتها وما عند الله خيرا وأبقى أفلا تعقلون ) ".
يا هشام ثم خوف الذين لا يعقلون عذابه فقال عزوجل: " ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون ) ".
يا هشام ثم بين أن العقل مع العلم فقال: " وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ".
يا هشام ثم ذم الذين لا يعقلون فقال: " وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) " وقال: " إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ". وقال: " ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون )". ثم ذم الكثرة فقال: " وإن تطع أكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله ) ". وقال: " ولكن أكثرهم لا يعلمون ".وأكثرهم لا يشعرون ) ".
يا هشام ثم مدح القلة فقال: " وقليل من عبادي الشكور ". وقال: " وقليل ما هم " وقال: " وما آمن معه إلا قليل ".
يا هشام ثم ذكر أولي الالباب بأحسن الذكر وحلاهم بأحسن الحلية، فقال: " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الالباب :
يا هشام إن الله يقول: " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ". يعني العقل. وقال: " ولقد آتينا لقمان الحكمة " قال: الفهم والعقل.
يا هشام إن لقمان قال لابنه: " تواضع للحق تكن أعقل الناس . يا بني إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيه عالم كثير فلتكن سفينتك فيها تقوى الله وحشوها الايمان وشراعها التوكل وقيمها العقل. ودليلها العلم وسكانها الصبر ".
يا هشام لكل شئ دليل. ودليل العاقل التفكر ودليل التفكر الصمت. ولكل شئ مطية ومطية العقل التواضع . وكفى بك جهلا أن تركب ما نهيت عنه.
يا هشام لو كان في يدك جوزة وقال الناس [ في يدك ] لؤلؤة ما كان ينفعك وأنت تعلم أنها جوزة. ولو كان في يدك لؤلؤة وقال الناس: إنها جوزة ما ضرك وأنت تعلم أنها لؤلؤة.
يا هشام ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة لله. وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلا. وأعقلهم أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.
يا هشام ما من عبد إلا وملك آخذ بناصيته، فلا يتواضع إلا رفعه الله ولا يتعاظم إلا وضعه الله.
يا هشام إن لله على الناس حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والانبياء والائمة. وأما الباطنة فالعقول.
يا هشام إن العاقل، الذي لا يشغل الحلال شكره ولا يغلب الحرام صبره.
يا هشام من سلط ثلاثا على ثلاث فكأنما أعان هواه عل هدم عقله. من أظلم نور فكره بطول أمله. ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه. وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان هواه على هدم عقله. ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.
يا هشام كيف يزكو عند الله عملك وأنت قد شغلت عقلك عن أمر ربك وأطعت هواك على غلبة عقلك.
يا هشام الصبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن الله تبارك وتعالى اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند ربه [ وكان الله ] آنسه في الوحشة وصاحبه في الوحدة. وغناه في العيلة ومعزه في غير عشيرة .
يا هشام نصب الخلق لطاعة الله. ولا نجاة إلا بالطاعة. والطاعة بالعلم. والعلم بالتعلم. والتعلم بالعقل يعتقد . ولا علم إلا من عالم رباني. ومعرفة العالم بالعقل.
يا هشام قليل العمل من العاقل مقبول مضاعف. وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود.
يا هشام إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة. ولم يرض بالدون من الحكمة مع الدنيا، فلذلك ربحت تجارتهم.
يا هشام إن كان يغنيك ما يكفيك فأدنى ما في الدنيا يكفيك. وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس شئ من الدنيا يغنيك.
يا هشام إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب. وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض .
يا هشام إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة. لانهم علموا أن الدنيا طالبة ومطلوبة والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه. ومن طلب الدنيا طلبته الآخره فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته.
يا هشام من أراد الغنى بلا مال وراحة القلب من الحسد والسلامة في الدين فليتضرع إلى الله في مسألته بأن يكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه ومن قنع بما يكفيه استغنى ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبدا.
يا هشام إن الله عزوجل حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا: " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " حين علموا أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها. إنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه. ولا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقا، وسره لعلانيته موافقا، لان الله لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه وناطق عنه.
يا هشام كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: ما من شئ عبدالله به أفضل من العقل. وما تم عقل امرء حتى يكون فيه خصال شتى، الكفر والشر منه مأمونان. والرشد والخير منه مأمولان فضل ماله مبذول. وفضل قوله مكفوف. نصيبه من الدنيا القوت. ولا يشبع من العلم دهره. الذل أحب إليه مع الله من العز مع غيره. والتواضع أحب إليه من الشرف. يستكثر قليل المعروف من غيره ويستقل كثير المعروف من نفسه ويرى الناس كلهم خيرا منه وأنه شرهم في نفسه وهو تمام الامر.
يا هشام من صدق لسانه زكى عمله. ومن حسنت نيته زيد في رزقه. ومن حسن بره بإخوانه وأهله مد في عمره.