في
نداءٍ وجّهه إلى العالم العربيّ والإسلاميّ في ذكرى مولد الرّسول(ص)
فضل
الله: الإثارات المذهبيّة تحقّق أهداف العدوّ التّدميريّة بعد فشله في
الحرب المباشرة مع المقاومة
رأى العلامة المرجع، السيّد محمّد حسين فضل الله، أنّ
الوحدة الإسلاميّة ليست خياراً تملك أن تختاره أو تتركه، بل هي منهجٌ يرتكز
إلى الرّوح الإيجابيّة التي يريد الله للإنسان المسلم أن يبني من خلالها
الحياة مع الآخر، مشيراً إلى أنّ هذه الوحدة مستهدفة من خلال ما يخطّط له
الاستكبار لاستكمال مشروعه في السّيطرة على المواقع الاستراتيجيّة في
الأمّة، ومن خلال الحرب الإعلاميّة والنفسيّة التي تستهدف إثارة فريقٍ في
الأمّة ضدّ فريق آخر.
ودعا سماحته إلى مواجهة فكر التّكفير في الأمّة من خلال
العمل بوصيّة النبي(ص)، داعياً المسلمين إلى حملةٍ عالميّةٍ تعرّف العالم
بشخصيّة الرّسول الأكرم(ص)، وحذّر من أنّ العدوّ الصهيونيّ الذي فشل في
حربه المباشرة مع المقاومة، بدأ يراهن على تحقيق أهدافه التدميريّة من خلال
ما يقدّمه له البعض من فرصٍ متعدّدة في الإثارات المذهبيّة، مؤكّداً حقّ
الأمّة في حماية نفسها، وداعياً إلى اعتبار ما تملكه قوى الممانعة من قوّة
ذخيرةً استراتيجيّةً للأمّة كلّها.
لمناسبة مولد الرّسول الأكرم(ص)، وجّه سماحته نداءً إلى
العرب والمسلمين جاء فيه:
يختلف المسلمون، تبعاً للرّوايات، في تاريخ ولادة النبيّ
محمّد(ص)، بين 12ربيع الأوّل الّذي يأخذ به مشهور المسلمين السنّة وبعض
المسلمين الشّيعة، و17 ربيع الأوّل الذي يأخذ به مشهور المسلمين الشّيعة
وربّما غيرهم.
وهذا الاختلاف يعكس التنوّع في الدّائرة الإسلاميّة، سواء
في منهج الاجتهاد، أو في التّحقيق التّاريخيّ، أو في المفردات العلميّة
التي يراها البعض كافيةً لإثبات موضوعٍ أو فكرةٍ ما لا يراها الآخر كذلك.
وهذا الأمر جزءٌ من حركة الاختلاف البشريّة التي لم يخلُ منها دينٌ أو
مذهبٌ أو اتّجاه.
إلا أنَّ ما ينبغي تأكيده، هو أنَّ ارتباطنا بالرّسول هو
ارتباطٌ بالرّسالة، وعلاقتنا به كمسلمين يؤكّدها الإسلام الّذي ولد مع بعثة
النّبيّ وحركته التي خاض فيها الصّراع، وواجه فيها التحدّيات المتنوّعة
التي أرادت للإنسان أن يبقى في وحول الشّرك، وجمود الصّنم، وضيق الأفق،
والبُعد عن الفطرة، ومجانبة الأخلاق والقيم...
ولذلك نجد أنّ القرآن الكريم عرض للأنبياء في رسالاتهم
وتجاربهم التي تمثّل القدوة لنا في مدى التاريخ، ولم يهتمّ بذكر ولاداتهم،
أو خصوصيّات شخصيّاتهم في ذواتهم البشريّة؛ لأنّه لا يريد من الإنسان
المؤمن أن يستغرق في خصوصيّة الشّخص بعيداً عن الرّسالة، بل أن يستغرق في
مفردات الرّسالة التي تعكسها الشخصيّة القدوة والنّموذج.
وأمّا اهتمامه بولادة النبيّ موسى وعيسى(ع)، فلأجل
اتّصالهما بحركيّة الرّسالة وبعض مضامينها، وليس من جهة العناصر الذّاتيّة
الشخصيّة في هذا المجال.
ولذلك لا يهمّنا كثيراً تاريخ الولادة، وربّما لا يهمّنا
التّاريخ كلّه في خصوصيّاته الزّمانيّة قياساً بعناصر القدوة والعبرة؛ بل
يهمّنا القول الّذي ينطلق به لسان الرّسول وحياً أو فكراً يغني الحياة
وتجاربها، ويوجّه مسيرة البشريّة نحو خطوط الضّوء، ويعنينا الفعل الذي
يجسّد فيه الرّسول معنى القيمة الرّساليّة، وتهمّنا أحداث التّاريخ بما
تختزنه من نقاط عبرةٍ توجّه الحاضر وتحتضن المسيرة في خطّ سيرها التّصاعديّ
في الحياة وإلى الله عزّ وجلّ.
وفي كلّ الأحوال، فلا ينبغي أن يكون الاختلاف على تاريخ
مولد الرّسول اختلافاً على قيم الرّسالة؛ لأنّ هذه القيم تمثّل عنوان وحدة
المسلمين، كما كان الرّسول نفسه عنوان وحدتهم؛ ولنجتمع اليوم على تعريف
العالم بنبيّنا محمّد(ص)، الذي كان قرآناً ينطق، ورحمةً للعالمين، وروحاً
تتجسّد، وقيماً تتحرّك...
وفيما يلي نؤكّد عدّة قضايا:
أوّلاً: إنّ الوحدة الإسلاميّة ليست خياراً تملك أن تختاره
أو تتركه، بل هي منهجٌ يرتكز إلى الرّوح الإيجابيّة التي يريد الله
للإنسان المسلم أن يبني من خلالها الحياة مع الآخر، من حيث رصد كلّ النقاط
المشتركة بين المسلمين، لينطلق التنوّع في خطّ تعزيز عناصر القوّة في
المجتمع الإسلاميّ. وهو ما من شأنه أن يشدّ أواصر المسلمين وقد اجتمع عليهم
العالم كلّه؛ لأنّنا نعيش في عالمٍ هو ضدّ القيم والأخلاق، وينطلق مع
المصالح الذاتيّة والمنافع الشخصيّة، والإسلام قد أتى محرّراً للإنسان من
عبوديّته، وحتّى من لذّاته، في أهوائها وغرائزها وشهواتها، ليرتقي من موقع
حرّيته أمام العالم كلّه، كما أمام نفسه، وليفرض هو الواقع على الصّورة
الّتي يريدها الله تعالى للحياة.
وهذه الوحدة الإسلاميّة مستهدفة في هذه الأيّام من
زاويتين:
الأولى: ما تخطّط له محاور الاستكبار العالميّ على مستوى
استكمال مشروعها للسّيطرة على المواقع الاستراتيجيّة في الأمّة، والتحكّم ـ
من خلالها ـ بثرواتها ومقدّراتها، والضّغط على حركتها السياسيّة.
الثّانية: الحرب الإعلاميّة والنّفسيّة التي تستهدف إثارة
هذا الطّرف في الأمّة ضدّ الآخر، من خلال إيهام البعض بأنّه مهدّد من قبل
البعض الآخر، كما ترمي إلى تعزيز عناصر الإثارة المذهبيّة التي تخرج الواقع
الإسلاميّ عن عقلانيّته إلى انفعال الغريزة العصبيّة التي قال فيها النبيّ
محمّد(ص): «ليس منّا من دعا إلى عصبيّة، وليس منّا
من قاتل على عصبيّة، وليس منّا من مات على عصبيّة»، وقال: «من تعصّب أو تُعصّب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه».
ثانياً: لا بدَّ من مواجهةِ فكر التَّكفير في الأمَّة، وهو
وصيَّة رسول الله(ص) في آخر حياتِه، حين قال: «... فإنَّ الله تباركَ
وتعالى قد حرَّم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقِّها كحرمة يومكم هذا، في
بلدكم هذا، في شهركم هذا... ويلكم لا ترجعنّ بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب
بعض»، والله تعالى يخاطبنا جميعاً: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}[النّساء:59]، ليكون الحوار أساساً
في إدارة اختلافاتنا، ولنرجع إلى كتاب الله وسنّة نبيّه فيما نختلف فيه،
ليفهم أحدنا الآخر، أو ليعذر بعضنا بعضاً فيما نختلف فيه من اجتهاداتٍ في
فهم القرآن والسنّة.
ثالثاً: إنّ علينا أن نطلق الصّورة المشرقة لنبيّنا(ص) إلى
العالم كلّه، من أجل أن يتعرّف العالم حقيقة هذه الشخصيّة التي تمثّل
الرّحمة كلّها، والفكر كلّه، والغنى كلّه، والرّوح كلّه... باللّغة التي
يفهمها النّاس في هذا العصر. وهذه مسؤوليّة لا بدّ من أن ينطلق بها جميع
المسلمين، بدلاً من التلهّي بخلافات هامشيّة لا معنى لها هنا وهناك.
رابعاً: إنّ على المسؤولين عن إدارة العالم الإسلاميّ، في
دوله وجهاته، أن ينطلقوا بعيداً عن السياسات التي تجعل الأمّة مزقاً
متناثرةً وعرضةً لنهب الطّامعين والمستكبرين، وتعمل على تحويل وجهة الصّراع
من صراعٍ مع العدوّ الصهيوني إلى صراعٍ بين الإخوة، تحت دعايات إعلاميّة
ونفسيّة يعزّزها الاستكبار العالمي في جسم الأمّة.
خامساً: لا بدّ من أن ينطلق المسلمون يداً واحدةً لمواجهة
الاستكبار العالميّ الّذي يريد فرض هيمنته على الواقع الإسلاميّ؛ من
أفغانستان، إلى العراق، إلى الصّومال والسّودان، إلى إيران... والّذي يطلق
العنان في خططه الاستكباريّة لكيان العدوّ ليأخذ حرّيته في التهديد
والإعداد للعدوان على الأمّة، التي إذا أصيب منها ثغرٌ أصيب كيانها بأجمعه.
وإنّنا نحذّر من أنّ العدوّ الصهيونيّ الذي فشل في حربه
المباشرة مع المقاومة، في لبنان وفلسطين وغيرهما، بدأ يراهن على تحقيق
أهدافه التدميريّة من خلال ما يقدّم له البعض من فرصٍ متعدّدة في الإثارات
المذهبيّة التي تتحرّك فيها مواقع إعلاميّة، وتثيرها مراكز دراسات متخصّصة،
وتنطلق بها شخصيّات إسلاميّة لم تسعفها رؤيتها في رصد حركة الأعداء
وطموحات الآخرين الّذين يتطلّعون إلى تقويض الأمّة من داخلها.
سادساً: نريد للجميع أن يؤكّدوا حقّ الأمّة في حماية نفسها
من جميع الجهات، من خلال امتلاكها عناصر القوّة الذاتيّة التي تصون عزّتها
وكرامتها ومستقبل أجيالها، وتمنع الآخرين من الاعتداء عليها ساعة يشاؤون..
ونريد لكلّ الأحرار في الأمّة أن ينظروا إلى المواقع الإسلاميّة التي
امتلكت عناصر قوّة جديدة نظرةً منفتحةً واعية، ليعتبروا أنّ هذه القوّة
قوّة لهم في حركتهم ضدّ أعداء الأمّة، وذخيرة استراتيجيّة لحساب مواقع
الممانعة كلّها بعيداً عن الحسابات الإقليميّة أو الطائفيّة أو المذهبيّة
الضيّقة.
أخيراً: إنّنا نتوجّه إلى المسلمين جميعاً لنقول لهم:
اللهَ اللهَ في الإسلام! لا تحبسوه في مذهبيّاتكم، ولا تسجنوه في
عصبيّاتكم، ولا تدمّروه بأحقادكم ونزاعاتكم، ولا تشوّهوه بالجهل والتخلّف،
ولا تضعفوه بنزاعاتكم، ولا تضيّعوه في غمرة مصالحكم الذاتيّة، ولا تسفكوا
دماء أبنائه بوحشيّتكم التّكفيريّة... أغنوه بطاقاتكم، وانشروه إلى العالم
بإبداعاتكم، وارفعوه بسماحة نفوسكم، وأعزّوه بحرّية إراداتكم، وقوّوه
بوحدتكم، ولا تجعلوه عرضةً لمؤامرات الأعداء وخطط المستكبرين... اللّهمّ هل
بلّغت؟ اللّهمّ اشهد.
مكتب سماحة آية الله العظمى
[size=16]السيد
محمد حسين
فضل الله
التاريخ:
10 ربيع الأوّل 1431
هـ
الموافق: 24-02-2010
م[/size]