إن تقيم رجال الفكر وتبيان دورهم الفاعل في الحياة يتحدد بالمسارات الآتية.
الأول: ما يمثل ذلك الفكر من عطاء في شتى الأصعدة وما يقدمه من حلول لمشاكل الإنسان.
الثاني: اهتمامه بالنظرية الشمولية والابتعاد عن الأطر الضيقة التي تشمل فئة معينة أو طائفة أو قومية.
الثالث: مدى قدرته على مواجهة الصعاب والتحديات التي تسير بالاتجاه المعاكس لذلك الفكر.
والواقع, إن هذه الأسس التي يجب أن ينهض عليها أي مشروع فكري تدخل في عملية تقويم ما يطرح على الساحة الإنسانية من أفكار وقيم صادقة أو غير صادقة على مختلف التوجهات التي تطمح إليها..
ولذلك نجد أن الأنبياء والمرسلين الذين جاءوا بالرسالات العظيمة استطاعوا أن يغيروا أقوامهم ليقودوهم نحو الحق والفضيلة بما يمتلكون من قدرات ذاتية بالإضافة إلى عظمة ما حملوا من رسالات تكفل للمجتمع الذي بعثوا من اجله تحقيق ما يطمح إليه من عناصر الخير والسمو والحياة السعيدة.
على ضوء ذلك نستطيع ان نتبين الدور الريادي الذي انتهجه شهيد المحراب (قدس سره) في عالم الفكر..
فلقد تصدى (رحمه الله) ومنذ فجر حياته المباركة إلى أعتى هجمة ظلامية وقفت خلفها كل قوى الكفر العالمي للإيقاع بالإسلام والمسلمين حيث أغرقت الساحة الإسلامية بطوفان رهيب من الأيدلوجيات والأفكار الهدّامة والقومية المتطرفة مستهدفة في ذلك إبعاد المسلمين عن عقيدتهم الحقة وإحداث شرخ بين المسلمين وقادتهم كما حدث فيما مضى من فجوة واسعة بين الكنيسة وإتباعها لان أعداء الإسلام لم يدركوا طبيعة العلاقة بين المسلمين وقادتهم الروحانيين اذ هي علاقة عضوية تنبع من نظرة الإسلام للعلماء باعتبارهم ورثة الأنبياء.
فقد شكل السيد الحكيم (قدس سره) هو والبعض من اقرانه تياراً سياسياً وثقافياً كان بمثابة الرد على التوجهات المتطرفة والغريبة عن الإسلام وبقي يصارع ولعقود من الزمن اعتى نظام بربري لم يشهد له التاريخ مثيلاً حيث نال منه الكثير من الظلم والجور والتصفيات الجسدية من أجل إطفاء ذلك الفكر المقدس الذي يحمله الشهيد الحكيم...
ولقد كان طيلة فترة الصراع على أرضية عقائدية وفكرية وسياسية صلبة استطاع من خلالها أن يغطي احتياجات الساحة الإسلامية وما تتطلبه فترة الصراع الطويل من تواصل في شتى المجالات ذلك لأن الشهيد الحكيم( قدس) كان يتمتع بآفاق فكرية رحبة أستطاع من خلالها أن يدخل بقوة في شتى الأصعدة السياسية والعقائدة والاجتماعية والإنسانية حيث شكلت بمجموعها مشروعاً تربوياً لبناء الشخصية المسلمة التي تستطيع النهوض بمسؤولياته الكاملة.
إن عملية أعداد الإنسان الرسالي القادر على مواجهة ظروف العصر ومتطلباته تحتاج إلى جهود كبيرة وحثيثة يأتي متناسباً مع حجم التحديات الخطيرة التي يواجهها الإسلام, ذلك لأن الإنسان هو الوسيلة والغاية في آن واحد والعصر الذي نعيش فيه هو صراع إرادات ومبادئ يتم فيها البقاء للإصلاح الذي يثبت من خلال مسيرته الطويلة ـ رغم عثار الدروب ـ أنه الاوفق والأصلح لقيادة مسيرة الإنسان ولذلك جعل( قدس) من أولويات بناء هذه الشخصية( إذكاء روح التضحية والفداء والاحتفاظ بها في أوساط الأمة الإسلامية وكذلك روح الرفض للظلم والعدوان.
فالفرد المسلم يستمد عزته وكرامته من العقيدة الحقة التي يتمسك بها إذ تجعله شخصية رافضة إلى أي مبدأ يدعو إلى الدنيئة والذل في الحياة حيث لا خضوع إلا لله الواحد الأحد, يتكون ذلك وفق منظور حضاري إنساني يعكس الروح الإسلامية التي تدعو إلى التسامح واحترام الإنسان وفق الأطر الصحيحة.
والواقع أن لشهيد المحراب(قدس) رؤية واضحة للمجتمع الذي يجب أن يكون المسلم الرسالي فيه, حيث تتحدد معالم تلك الرؤية بممارسة تعاليم القرآن الكريم والأئمة الأطهار(ع) إذ يأتي في مقدمة تلك الأولويات الإيمان بالله تعالى وبرسله الموصلة إلى طاعة الله ورسله, وهي الطاعة التي تتجلى بالعمل بالأحكام الشرعية يتبع ذلك ما يظهره المسلم من إقامة الشعائر الإسلامية؛ لأنها تحقق التواصل المستمر بين الفرد المسلم والمبادئ التي يحملها بالإضافة إلى أن يكون المسلم على بصيرة بشؤون الدين وما يتطلبه من واجبات على الفرد باعتباره جزءاً من المجتمع حيث(( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).
والواقع أن عملية بناء الإنسان الرسالي وجعله يعيش حالة المسؤولية المباشرة حيث يتعامل بما يمليه عليه الواجب الشرعي ومن خلاله العبور إلى الحلقة الأوسع أي المجموعة الرسالة التي تشكل الأساس لقيام مجتمع إسلامي وهي الغاية الكبيرة التي يطمح إليها كل المصلحين الرساليين ـ إذ تعتبر امتداداً حياً لما كان يرمي إليه أهل البيت(ع) في جهدهم الدءوب ـ رغم التحديات الكبيرة التي واجهوها ـ من أجل بناء الجماعة الصالحة التي تشكل خليه مشعة في جسد الأمة الإسلامية وقدوة صالحة للمجتمع الإسلامي الكبير.
أن بناء جيل واع بناءاً نفسياً وتربوياً وإيمانياً عالياً يأتي بالدرجة الأولى في حسابات المصلحين وأصحاب الرسالات الذين يطمحون إلى حكم الإسلام وإقامة حكومة العدل؛ لأن هذا الجيل قد نشأ في ظل ثقافات منحرفة وتيارات مادية تمتلك الشيء الكثير من الإمكانات ووسائل الأغراء بالإضافة إلى ما يعانيه أبناء جيلنا من نضوب روحي وثقافي تجعل منه تربة خصبة تنمو عليها ثقافة الآخر.
أن عملية التوجه لبناء هذا الجيل رغم كونها طويلة وتحتاج إلى تضحيات وصبر ومطاولة ولكنها لا محيص عنها وقد أشار أليها شهيد المحراب قائلا:
(( أن بناء الصفوة هي في غاية الصعوبة والتعقيد من ناحية ولكنها عملية ميسورة وممكنه من ناحية أخرى, أما أنها في غاية الصعوبة والتعقيد؛ لأنها تحتاج إلى جهود متواصلة ومستمرة وجهاد نفسي وبدني ومالي, كما أنها في الوقت نفسه ميسورة لأن الإنسان يتميز بميزة التكامل من خلال العمل الصالح والنية المخلصة والعزيمة القوية والإرادة النافذة)).
أن الروح التربوية العالية التي ملأت جوانح شهيد المحراب( قدس) بالإضافة إلى تشخيصه للسبل الكفيلة بالوصول إلى الهدف الذي نسعى جميعاً أليه تجعل ما يعانيه الرسالي من صعوبات وعراقيل ليست ذات أهمية تجاه ما يصبو إليه من رضا الله سبحانه وتعالى, وبلوغ الغاية السامية.