"العدل والإحسان"والتشيع
أوجه التقارب والتباعد
المقدمة
الفكر الشيعي جزء لا يتجزأ من عموم و شمولية الفكر الإسلامي، و لئن عرف هذا الفكر مدا و جزرا عبر التاريخ الإسلامي الطويل، فإنه اليوم يتمدد بشكل أسرع من أي وقت مضى، وذلك راجع لأسباب عدة أهمها ما يلي:
1 – بروز الثورة الإيرانية – الحاملة لهذا الفكر – كقوة لا يستهان بها ضمن موازين القوى العالمية، بحيث حققت هذه الثورة – طيلة ثلاثة عقود – إنجازات هامة في شتى الميادين، السياسية و العسكرية، الاقتصادية و الاجتماعية، العلمية و الفكرية و... حتى أضحت قطبا من أقطاب العلم و المعرفة. و لقيت المراكز العلمية و المعرفية لديها تشجيعا خاصا من لدن مسئولي الثورة، حتى أصبحت هذه المراكز – و على رأسها قم – بمثابة مصدر إشعاع يصل مداه إلى جميع ربوع هذه البسيطة و خصوصا العالمين الإسلامي و العربي. أضف إلى ذلك الصدارة التي تحتلها إيران في مواجهة الإستكبار العالمي برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
2 – الانتصارات التي حققها حزب الله اللبناني – ذو المرجعية الشيعية – على الكيان الصهيوني و ما أعقبها من تداعيات على المستوى الإقليمي و العالمي.
3 – سقوط النظام البعثي في العراق الذي كان جاثما على صدر العلماء والمفكرين الشيعة، و على المراكز العلمية لديهم و خصوصا النجف و كربلاء. فبعد هذا السقوط انتعشت مراكزهم العلمية أيما انتعاش.
4 – ظهور هذا الفكر وبشكل ملفت للنظر في القنوات الفضائية و الشبكات الإلكترونية و المكتبات الإسلامية و العربية.
هذه الأسباب و غيرها جعلت بل شجعت – إن لم نقل فرضت على – المهتمين بالفكر الإسلامي عموما أن يخصصـوا بعضا من أوقاتهم – قل أو كثر – للإطلاع على هذا الفكر و دراسته.
و المجتمع المغربي باعتباره بلدا إسلاميا عربيا يهمه ما يهم المسلمين و العرب عموما، و باعتباره بلدا منفتحا على جميع الحضارات و التوجهات الفكرية، كان من الطبيعي أن يهتم بهذا الفكر الذي هو جزء من الفكر الإسلامي عموما كما أسلفنا ، و كان من الطبيعي أيضا أن يتأثر به بعض أفراده و يتبنونه، بل كان حتميا أن تتكون و تفرز طبقة من المثقفين و العلماء تحمل هذا الفكر و تدافع عنه و تسعى لنشره إسهاما منها في إغناء هذا المجال و إثرائه.
ومن المعلوم أن الفكر الشيعي كأخيه السني ينقسم إلى مدارس، الأمر الذي سيفرز تباين في الرؤى و التصورات و الممارسات لدى متبني هذا الفكر و بالتالي ستتباين ردود الأفعال من لدن مكونات المجتمع المغربي.
فما هي معالم أهم هته المدارس ؟
و كيف ستتعاطى مكونات المجتمع المغربي معها ؟
سؤالان كبيران وجب الاهتمام بهمـا و خصوصا من متبني مختلف هته المدارس، و كذا المهتمين بالشأن الديني و العمل الإسلامي بالبلد.
و لاشك أن لهؤلاء المهتمين رؤى و تصورات و مواقف تجاه الفكر الشيعي ورموزه و مدارسه، مجملة أحيانا و مفصلة أخرى. و نحن في هذا البحث المتواضع سنحاول التنقيب عن بعض الرؤى و التصورات و المواقف تجاه هذا الفكر و رجالاته من لدن مكون بارز من مكونات العمل الإسلامي بالمغرب و مناقشتها.
هذا المكون هو"جماعة العدل و الإحسان". و قد أعطيناه الأولوية في بحثنا هذا للأسباب التالية:
أ – أن الجماعة تسعى لتربية أبنائها تربية إيمانية إحسانية، و لذا فهي تنهل من كل ما من شأنه أن يحقق هذا المسعى، فتجد التراث الصوفي حاضرا بقوة في المنظومة الفكرية للجماعة و الممارسة العملية لأبنائها، و تعمل جاهدة – و خصوصا مرشدها الشيخ عبد السلام ياسين – على انتقاء ما يوافق القرآن الكريم و السنة المطهرة من هذا التراث.
و التراث الشيعي له من الربانية و الروحانية العرفانية ما يصقل شخصية المسلم في هذا الجانب و يرفعه أعلى المقامات لاتصال سنده بأئمة أهل البيت عليهم السلام الذين يشهد لهم الجميع بالقطبية في شتى الميادين.
ب – أنها تسعى لتكوين أبنائها تكوينا شموليا متوازنا، فكما أنها تحث أعضاءها على الصحبة و الجماعة و الذكر و الصدق فهي تحثهم أيضا على العلم بجميع أصنــافه و فنونه و العمل به، و الجماعة نحسبها جادة في انتقاء ما يوافق الكتاب و السنة في هذا المجال من التراث.
"ولاشك أن أئمة آل البيت عليهم السلام أهل رشد و علم، ورثة بيت النبوة. فما صح عنهم فهو على الرأس و العين. لا أظن مؤمنا يطعن فيهم و يبقى مؤمنا. تبقى مسألة العصمة و هي شائكة" (1) .
ج – أن الجماعة راغبة في إقامة العدل في الأرض و هي ﹸتنظﳴر لما تبشر به من غد الخلافة على منهاج النبوة حسب تصورها وقراءتها للتاريخ الإسلامي.
و معلوم أن هذا الغد سيتوج بظهور الإمام المهدي (ع) الذي هو من سلالة رسول الله صلى الله عليه و آله، و الذي تعتقده السنة و الشيعة على السواء على اختلاف في مولده ووجوده ، وهو الذي سيملأ الأرض قسطا وعدلا بعد امتلائها ظلما وجورا.
وقبل هذا فهي تمد الجسور لكل صادق مهتم بوحدة المسلمين و ساع إليها، و في هذا الموضوع يقول الشيخ عبد السلام ياسين : "لا حاجة بنا للتعرض لفرق الشيعة و غلاة التشيع من الروافض و الباطنية، فلئن كانوا في تاريخ الأمة آفة ووبالا ترك آثارا بليغة لاتزال حية، فإن ما يعنينا لنصب الجسور بيننا و بين إخوتنا الشيعة هو معرفة أصول الخلاف لتتضح لنا معالم مستقبل يعود فيه الصدع إلى الالتئام إن شاء الله كما يشاء الله ربنا الحكيم العليم. كما لا نتعرض لأهل النصب – نعوذ بالله – ممن اندسوا تحت السنية ليثلبوا آل البيت و ينقصوهم "(2) .
د – أن الكثيرين من أبناء الجماعة و المتعاطفين معها على غير اطلاع بمدى انفتاحها و انكماشها على الفكر الشيعي و حامليه و ذلك راجع إلى سعة مدرسة الجمـاعة و تشعب اهتماماتها، إذ يستعصي الإحاطة بفكرها – الذي هو جله من فكر الشيخ عبد السلام ياسين – على الطليعة من أعضائها بله غيرهم . و لذا تجد البعض منهم يقف الموقف السلبي حيال هذا الفكر و رجاله نتيجة للدعاية الإعلامية السلفية المصورة لهذا الفكر و كأنه دخيل على هذه الأمة و لا يمت إليها بصلة، و أن رجاله و معتنقيه زنادقة روافض.
ومن المعلوم أن المشهد العلمي و الثقافي الإسلامي السني يسيطر عليه هذا الاتجاه المدعوم من طرف أمراء النفط، في حين تعرف باقي المذاهب خذلانا من مدعي متبنيها كالمذهب المالكي والعقيدة الأشعرية بالمغرب. فارتأينا أن نبرز في هذا البحث المتواضع هذا التقارب و التباعد – غير مدعين استقصاءهما – إسهاما منا في شد الانتباه إليهما و تنبيها للإخوة في الجماعة إلى مرجعيتهم ، إضافة إلى مناقشة بعض الأقوال و الفقرات بطريقة علمية هادئة تتوخى ما تتوخاه الجماعة نفسها في أدبياتـها.
هـ - سعة حجم الجماعة بحيث تعد أكبر جماعة من حيث عدد أفرادها داخل المغرب و خارجه، إضافة إلى ذلك شجاعتها و جرأتها في اتخاذ مواقفها و آرائها، إذ أن من يملك هذه الشجاعة و هته الجرأة يكون هو الأجدر بالاهتمام و الحوار من غيره.
و – وجود ظاهرة ما يسمى ب "التقية" لدى الكثير من المتشيعين المغاربة، ظنا منهم أن إظهار تشيعهم لأهل البيت عليهم السلام سيسبب لهم متاعب جمة و بدءا من إخوانهم أبناء الصحوة والحركة الإسلامية السنية.
و باعتقادنا و لئن كانت التقية مشروعة للحفاظ على النفس و العرض و المال فإننا لا نرى لها مبررا في مجتمعنا هذا المتعددة أطيافه، المختلفة اتجاهاته، المنفتحة آفاقه. فبالإضافة إلى وجود اتجاهات تحت العنوان السني من إخوانية و سلفية ووهابية و صوفية و عامة المسلمين فإن هناك المسيحية و اليهودية و البهائية و غيرها، هذا إضافة إلى اللادينية.
فكيف ينقبض الموالي لأهل البيت (ع) بعد الله و رسوله على تقيته و يترك الساحة لبعض المغرضين الذين لا يألون جهدا في تشويه صورة هذا الفكر النير و لا يدعون وصفا و لا تهمة قذرة وسخة إلا و ألصقوها به.
إن التشيع بقدر ما هو محبة و ولاء لله و رسوله و أهل بيته فهو أيضا محبة و سلم تجاه الآخرين و رفق و رحمة بهم، و كما أنه عقيدة و تصور فهو مذهب و منهج حياة يقوم أساسا على الأخلاق الفاضلة و الخصال الحميدة من الانفتاح و الحوار بالتي هي أحسن و التعاون على البر و التقوى و حب الخير للمجتمع.
و إني لا أقصد من وراء بحثي هذا إلا ما أراه رضا لربي و إخلاصا لديني و تواصيا مع شيخنا الجليل و إخوتنا في الجماعة، عملا بمبادئ سورة العصر التي تشربنا معانيها في مجالسها. ولا حديث لنا مع المتعصبين و الإمعيين- فهم آفة كل مذهب وطائفة وحركة وجماعة- الذين لا يعرفون الرجال بالحق إنما يعرفون الحق بالرجال، وذوي الذهنية الرعوية التي تنتظر أن يفعل بها ولا تفعل – بتعبير الشيخ عبد السلام ياسين ، إشارة منه إلى علاقة الجماهير بحكامهم ، غير أن هذه الذهنية "يتمتع" بها كذلك الكثير من أتباع المذاهب والطوائف والحركات والجماعات في علاقتهم مع قادتهم وموجهيهم وعلمائهم -. ونذكر هنا في هذا المقام أنه قد يكون الشخص الذي ينتقدك أو ينتقد فكرك يحبك أكثر مما يحبك الشخص الذي يمدحك. (رحم الله امرءاً أهدى إلي عيوبي)
على أن هذا البحث سنقوم بنشره عبر حلقات بحول الله تعالى.
فاللهم ارزقنا الإخلاص في العمل و السداد في القول و الحكمة في الخطاب .(يتبع في الحلقة القادمة بحول الله عز وجل )
(1) : كتاب "الخلافة و الملك" للشيخ عبد السلام ياسين، الطبعة الثانية – و التي سيتم اعتمادها في هذا البحث بحول الله – صفحة 49.
(2) : "الخلافة و الملك" ص. 47.